بطرس دانيال يكتب: لسان العاقل وراء قلبه
يقول يشوع بن سيراخ: «خبيثٌ مَنْ يَحسُدُ بِعينه ويُحَوِّلُ وجهَه ويحتقر الناس» (8:14). على مر الزمان نجد الذين يشوهون سُمعة الآخرين ويسخرون منهم بدافعٍ من الغيرة والحسد. ذات يومٍ دُعِى الفنان الإغريقى الشهير Apelle من الإسكندر الأكبر فى قصره، وهناك عرض الفنان لوحةً فى غاية الروعة والجمال ليشاهدها المدعوون ثم يبدى كل واحدٍ منهم ملاحظاته فيها. فاختبأ الفنان خلف اللوحة بحيث لا يستطيع أحدٌ رؤيته ليبدى رأيه بصراحةٍ وحرية، وفى نفس الوقت يرى الآخرين ويسمع آراءهم، ثم ظهر فجأةً إسكافى بين الحضور وبدأ ينتقد الحذاء ويظهر عيوباً فيه، ولكنه لم يكتفِ بهذا، بل أخذ يتطاول فى نقده اللاذع للوحة كلّها، فاضطر الفنان أن يقاطعه قائلاً: «أيها الإسكافى! لا ترتفع فوق الحذاء». نستخلص من هذه الأمثولة أن هناك أشخاصاً نتقابل معهم فى حياتنا اليومية لا عمل لهم سوى انتقاد كل ما يرونه أو يسمعونه حتى وإن كان بعيداً عن تخصصهم أو ليست لهم دراية فى هذا المجال. كم من الأشخاص الذين تتوقف ثقافتهم ومعرفتهم عمّا تصبّه الثرثرة والتفاهات فى عقولهم، وبالرغم من ذلك يتفلسفون فى كل شىء؟ نستطيع أن نُطلق على ما يفعله هؤلاء: «الادعاء الكاذب» وهو مرض يصيب السطحيين وأصحاب الذكاء المحدود، حتى إن عقولهم لا تتسع لتحصيل أكثر مما يجترّونه من الأفكار الهدّامة والسخرية من الآخرين. ويقول أحد الحكماء: «إن ضحايا السخرية، أكثر بما لا يُقدّر من الضحايا التى أوقعها الشيطان فى حبائل إغوائه». مما لا شك فيه أن البعض يعتبر هذا القول مُبَالغا فيه، ولكن الواقع يثبت لنا أن السخرية قوّة هدّامة تُبعد الآخر عن طريق الخير والفضيلة والتقدّم. لا يوجد أى إنسانٍ خالٍ من النقائص والعيوب، ولكن يوجد بعض الأشخاص الذين يعميهم الكبرياء ويظنون أنهم أكثر الناس كمالاً واستقامة، لذلك ينشغلون عنها، ويشنّون حملة للكشف عن مساوئ الغير، كما يفعل النمّام الحسود الذى يؤذيه رؤية الخير والنجاح فى الناس، فيسعى فى التنقيب عمّا يُعيب الآخرين كاشفاً زلاتهم مستخدماً سلاح الكذب والنفاق. كانت السخرية ومازالت سلاح الجهل والشر وسوء النيّة، ولكن هذا السلاح ضعيف لا يُخيف إلا ضُعاف العزيمة والشخصية، كما أنه لا يؤثر إلا على الذين يهتمون بما يقوله الناس عنهم، لذلك يجب علينا ألا نعيرها اهتماماً ولا نبالى بها، ولا نتأثر بأحكام الناس لأنها حتماً ستبعدنا عن طريق الفضيلة والخير، فلا نتشبّه بهؤلاء الذين يتأثرون من سخرية الغير وكلامهم حتى يهدمون حياتهم، وكما يقول شيشرون الخطيب: «لا يُحتَسَب فى عداد البشر، مَن يتخذ أحكام الناس دستورا لحياته». إذاً... فشجاعتنا أقوى سلاح لسد أفواه المتهكّمين الذين يُؤذيهم أن يروا الغير أفضل منهم، وسلاحهم الوحيد هو السخرية التى يسترون بها جهلهم وسوء نيتهم. كثيراً ما نجد فى حياتنا أشخاصاً لا غذاء لهم سوى الأحاديث التى لا فائدة منها، ولا هدف سوى انتقاد هذا والسخرية من ذاك، فالإنسان عديم الثقة فى ذاته هو الذى يعطى أهمية لهذه الأقاويل، ويتأثر بها حتى إنها تهدم حياته وتقلبها رأساً على عقب، ولكن الإنسان الواثق فى معونة الله وحُكْمِه، لا يهتم إلا بإرضاء ضميره، والتمسك بما يمليه عليه الواجب. مِن السهل أن نكتشف هدف سخرية البعض ألا وهو خبث النيّة وفساد الطبع والقلب، لأنهم يسعون إلى زرع الخصام والفُرقة بين القلوب حتى وإن لجأوا للكذب فى أحاديثهم. لذا يجب علينا ألا نتأثر بهؤلاء ولا نتمثل بهم. من يغلق عينيه أمام عيوبه ولا يُعيرها اهتماماً ويقلل من شأنها، يهمل فى التخلّص منها، ويتمادى فيها وتتفشى فى حياته وتشوّه معالم شخصيته حتى إنها تدفعه إلى الشقاء، ويسعى إلى الوسيلة الوحيدة وهى ضعف وعيوب الآخرين، حتى تمنحه بعض العزاء وتخدّر ضميره ويلتمس لذاته الأعذار والمبررات عما يقوم به من تصرفات مشينة. لكن الواقع يُثبت لنا أنه لا يستطيع أحدٌ أن ينكر أو يخفى عيوبه لأنها جليّة أمام الجميع، فالكذّاب تفضحه عيناه وحديثه؛ وعديم الأدب ينكشف من لهجته ونبرة صوته؛ وعديم الأخلاق يعرفه الناس من نظراته غير البريئة، فمن يتغافل عن التخلّص من عيوبه، يشوّه معالم شخصيته، ويصبح سخريةً أمام الجميع. لذلك يجب على كل واحدٍ أن يفكّر فى إصلاح ذاته. ونختم بالقول المأثور: «افرح بما لم تنطق به من خطأ أكثر من فرحك بما نطقت به من صواب».