تفسير الشعراوي لقوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} الآية 71 من سورة التوبة
تفسير سورة التوبة للشيخ محمد متولي الشعراوي
تفسير الشعراوي للآية 71 من سورة التوبة
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(71)}
جاءت هذه الآية بعد آية سابقة وُصِفَ فيها المنافقون في قوله تعالى: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ...} [التوبة: 67].
فناسب أن يقابلهم بالمؤمنين والمؤمنات، وتلك مناسبة الضد بالضد؛ لأن قياس الضد إلى ضده يُظهر الأمرين معاً. والمثال قول الشاعر حين يمدح محبوبته فيقول:
فالوَجْهُ مثْلُ الصبح مُبيضٌ *** والشَّعْر مثل الليل مُسْودُّ
ضِدَّان لما استجمعا حَسُنَا *** والضِّدُّ يُظهِر حُسْن الضِّدُّ
وبعد أن ذكر الحق فضائح المنافقين ومعايبهم، وحنثهم فيما يحلفون، وخلفهم فيها يعاهدون، أراد أن يجعل تقابلاً بينهم وبين المؤمنين والمؤمنات. لكن التقابل هنا اختلف في شيء؛ لأنه سبحانه قال في المنافقين: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ}، وحين تكلم عن المؤمنين قال: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} فالمنافقون والمنافقات وصفهم الحق {بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} أي أنهم كلهم متشابهون وسلوكهم مبني على التقليد والاتباع، فهم يقلدون بعضهم بعضاً. وبما أنهم قد أقاموا عقيدتهم على الشر، فكلهم شر، ولا يوجد بينهم من ينصحهم بالخير أو يحاول رَدَّهم عن النفاق، بل هم يمضون في تيار الشر إلى آخر مدى.
أما المؤمن فعقيدته مبنية على الاقتناع وعلى الخير. فإن وُجد في مؤمن شر؛ فَوليُّه من المؤمنين يبعده عن الشر ويعيده إلى طريق الخير؛ ذلك لأن النفس البشرية لها أغيار متعددة، ولا يسلك كل مؤمن السلوك الملتزم تمام الالتزام بمنهج الله في كل شيء. بل هناك خصلة ضعف في كل نفس بشرية. فإن وُجِدَ في المؤمن ضعف فأولياؤه من المؤمنين يُبيِّنون له نقطة ضعفه ويُبصِّرونه وينصحون له، ويُرد في نقطة ضعفه، والمؤمن أيضاً يُنبِّه غيره ويبصِّرونه وينصحون له، ويُرد في نقطة ضعفه، والمؤمن أيضاً يُنبِّه غيره ويبصِّره، وهكذا نجد أنه في المجتمع المؤمن، كل واحد يرد الآخر في نقطة ضعفه، والمؤمن أيضاً يُنبِّه غيره ويبصِّره، وهكذا نجد أنه في المجمتع المؤمن، كل واحد يرد الآخر في نقطة ضعفه، وكل منهم ينصح الآخر ويعظه، ليكتمل إيمان الجميع، ومَنْ يقصر في شيء يجد القريب منه؛ وهو يسد الثغرة الطارئة في سلوكه. أما المنافقون فيصفهم الحق {بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} أي: أنهم جميعاً من بعض، فلا يتناهَوْنَ عن منكر فعلوه، ولا يوجد بينهم ناصح.
وقول الحق سبحانه وتعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} لم يبين لنا من المولى ومن الموَالي، فكل مؤمن وهو ولي وهو موال؛ لأن الولاية مأخوذة من (يليه)، أي صار قريباً، وضدها عاداهُ أي بَعُدَ عنه وتركه، إذن: فالموالاة ضدها العداوة. وفائدة القرب أن يكون الولي نصير أخيه المؤمن في الأمر الذي هو ضعيف فيه.
فإذا كنت ضعيفاً في أمر ما، فأخي المؤمن ينصرني فيه. وما دام أخي المؤمن ينصرني في أمر ما، فإن صار هو ضعيفاً في شيء أنصره أنا فيه، فنتفاعل ونتكامل ويصبح كل منا ولياً ومُوَالَى.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 1-3].
ولو قيل: (وصَّوْا) لكان هناك أناس يوصون وأناس يتواصون، لكن الحق قال: {وَتَوَاصَوْاْ} ومعناها أن كل مؤمن عليه أن يوصي أخاه المؤمن. فإن كان عندي نقطة ضعف فأنت توصيني وتقول: اعدل عن هذا ولا تفعله فأنت مؤمن. وإن كانت فيك نقطة ضعف أقول لك: لا تفعل هذا فأنت مؤمن.
إذن: فكل واحد منا مُوص ومُوصىً. كذلك الولاية فأنت وليي، أي قريب مني تنصرني في ضعفي، وأنا وليُّك، أي قريب منك، أنصرك في ضعفك لأننا أبناء أغيار؟ وكل واحد منا فيه نقطة ضعف تختلف عن نقطة ضعف الآخر.
والوَلاية تكون أيضاً في الحق، فقد أميل إلى الباطل في نقطة فيقول لي أخي المؤمن: اعدل. وقد يميل هو إلى الباطل فأقول له: اعدل. وهكذا يتكامل الإيمان، ولذلك تجد كلمة الوَلاية بمعنى القرب والنصرة في قول الحق في ذاته: {هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق...} [الكهف: 44].
أي: أن النصر الحقيقي والقرب الحقيقي لله؛ لأننا نعيش في عالم أغيار، فقد تطلب النصر عندي فتكون قوتي قد ذهبت، أو يكون مالي قد فنى، أو يكون نفوذي قد انتهى، ولكن الحق سبحانه وتعالى هو وحده القوي دائماً، والغني دائماً، الذي يُغيِّر ولا يتغير، وعندما ينصرك الله فهذا هو النصر الحقيقي الدائم الذي لا نصر الأغيار.
وتجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62].
أي: أن الحق سبحانه وتعالى جعل أولياء لله.
وكذلك يقول تبارك وتعالى: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ...} [البقرة: 257].
إذن: فالحق سبحانه وتعالى مرة يكون موالياً. ومرة يكون مُوَالىً، فإن واليت الله بطاعتك يواليك سبحانه بنصره. ويقول تعالى: {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
أي: إذا تقربت إلى الطاعة بطاعته ونصرة منهجه، فهو يقرب منك في أزماتك وينصرك ويُثبِّت أقدامك.
إذن: فالولاية في الأصل هي القرب والتناصر، وما دام هناك تناصر فلابد أن تكون هناك نقطة ضعف في مؤمن، ونقطة قوة في مؤمن آخر، ولكن مَن الذي سيكون في ضعف دائماً، أو في قوة دائماً؟ لا أحد. إذن: فكل واحد يَنصر، وكل واحد يُنصر.
وما دام الحق سبحانه وتعالى قد قال: {أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} ولم يعين البعض؛ فكل واحد صالح لأن يكون ناصراً ومنصورًا.
ولكي يتضح المعنى اقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياوة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً...} [الزخرف: 32].
وشاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل منكم السادة والعبيد، ويجعل منكم الأغنياء والفقراء، وذلك في أمور الدنيا، فإن كنتم تريدون أن تُقسموا أمور الدين، فاقسموا أولاً معايشكم؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو الذي قسمها بينكم، وحياتكم في الدنيا تتبع قوانين الأسباب، ومن السهل عليكم أن تقسموها بدلاً من أن تأتوا لتقسموا رحمة الله التي هي حق لله سبحانه وتعالى وحده.
ونلاحظ في قول الحق سبحانه وتعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ} أن البعض مرفوع والبعض الآخر مرفوع عليه، وما دامت كلمة {بَعْضٍ} مبهمة، فإن كلاً منا مرفوع عليه. ولا يوجد واحد من البشر مرفوع على الجميع، بحيث يكون وحده مجموعة متكاملة من المواهب. ولكن كلاّ منا متميز في ناحية أخرى، حتى يكون التلاحم في الكون تلاحم ضرورة حياة وليس تفضلاً؛ ولذلك فإن الإنسان المؤمن إذا كان فاعلاً مرفوعاً عليه في شيء فلابد أن يسأل نفسه: في أي الأشياء أنا مرفوع فيه؟ وفي أي الأشياء الناس أحسن مني؟
ونقول له: أنت تتقن عملاً معيناً ولذلك أنت مرفوع فيه، ولكن في باقي الأشياء لا تعلم شيئاً، فأنت مرفوع عليك. إذن: فأنا في الشيء الذي لا أجيده مرفوع عليّ، وفي الشيء الذي أجيده مرفوع على الناس؛ ولذلك تجد كل واحد في كون الله مرفوعاً مرة ومرفوعاً عليه مرة، وهذا هو معنى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ}.
ولكن الآفة أننا لا ننظر في الرفعة إلا في مجال واحد؛ هذا غني وهذا فقير، ولكننا لا ننظر إلى الصحة، أو العلم، أو الأولاد، أو صلاح الزوجة أو البركة في الحياة، وزوايا كثيرة، وبعضنا إذا أخذ درجة عالية في زاوية، فإنه قد يأخذ صفراً في زاوية أخرى. ومجموع كل إنسان في نهاية الأمر يساوي مجموع أي إنسان آخر، ولا تفاضل إلا بالتقوى. فإن رأيت واحداً متفوقاً عليك في شيء. فإياك أن تحسده ولكن اسأل نفسك في أي مجال أنت تتفوق عليه، وستجد هناك مجالات وزوايا أخرى تكون فيها أفضل من غيرك.
إذن: فكل منا مرفوع ومرفوع عليه، ولابد أن نفهم أن كل صاحب موهبة يفيد المجتمع بموهبته، وربما كان نفعه للمجتمع خيراً من نفعه لنفسه. انظر إلى النجار مثلاً يجده يتقن عمل الأبواب والنوافذ للناس، أما لنفسه فلا يتقنها، لماذا؟ لأن الباب الذي يصنعه لنفسه هو الباب الوحيد الذي لا يتقاضى عليه أجرًا.
ولقد ضربنا مثلاً باليد اليمنى واليد اليسرى، فعند غالبية الناس تجد أن اليد اليمنى تؤدي الأعمال بسهولة، واليسرى تزاولها ببطء وتعثر، فإذا أردت أن تقص أظافر يديك مثلاً، فأنت تمسك المقص بيمينك وتقص أظافر اليد اليسرى بسهولة، ثم تمسك المقص بشمالك وتتعثر في قَصِّ أظافر اليد اليمنى.
وهكذا نرى أنه لا يوجد إنسان يستمتع بالمواهب المكتملة. بل هو يتقن شيئاً ولا يتقن أشياء، ولكن مجموع مواهب كل إنسان، تساوي مجموع مواهب كل إنسان آخر.
والعدل الإلهي يتدخل هنا، فنجد- على سبيل المثال- الرجل الغني الذي يأكل خبزاً من الدقيق الأبيض الفاخر، يم يأتي عليه وقت من الأوقات لا يستطيع أن يأكل إلا الدقيق الأسود أو السّن. وتجد من يسرف في الطعام؛ لابد أن يأتي عليه وقت ويحرمه الأطباء من الطعام؛ لأنه أخذ منه أكثر من حقه. وتكون صحته في أن يُحرم. والحق سبحانه وتعالى وضع نظاماً كونياً يتساند فيه الجميع؛ لكي يلتحم الجميع. فأنت تحتاج لي فيما أتقنه وأنا أحتاج إليك فيما تتقنه، وهكذا يتساند الناس ويتكون المجتمع السليم.
ولذلك يقال: الناس بخير ما تباينوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا وأصبحوا أصحاب موهبة واحدة أو عمل واحد لفسد الكون، كأن نكون كلنا قضاة مثلاً، فمن الذي يعالج المريض؟ ومن الذي يحفر الأرض؟ ومن الذي يحمل الطوب؟ ومن الذي ينظف الطريق؟ إننا لو تشابهنا في الموهبة أو الثراء أو العمل فلن نجد أحداً يقوم بهذه الأعمال؛ لأننا لو كنا كلنا أطباء أو مهندسين أو صيادلة أو قضاة أو مشرعين لما استطعنا أن نعيش، بل لابد أن نختلف لأكون أنا محتاجاً لك وأنت محتاج لي. وبذلك يتماسك المجتمع، وتُقضَى مصالح الكون بسبب الحاجة، وليس بالتفضل بين الناس.
ويصف الحق سبحانه المؤمنين بأنهم: {يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} فإذا فعل مؤمن منكراً؛ جاء أخوه المؤمن فنهاه عنه، وإذا لم يفعل معروفاً جاء أخوه المؤمن وأمره بالمعروف وكل واحد منا ناهٍ عن منكر، ومنهي عن منكر.
وأنت لا يمكن أن تأمر بمعروف وأنت تفعل عكسه، أو أنت بعيد عنه، فلا يمكن أن تكون في يدك كأس من الخمر؛ ثم تطلب من إنسان آخر يمسك كأس خمر أن يحطم الكأس التي في يده، لا يمكن إذن أن تنهي عن منكر وأنت تفعله؛ والذي يأمر بمعروف لابد أن يكون فاعله، والذي ينهى عن المنكر لابد أن يكون بعيداً عنه. فكل مؤمن آمر ومأمور بالمعروف. وناهٍ عن المنكر.
ويضيف الحق وصفاً للمؤمنين: {وَيُقِيمُونَ الصلاوة وَيُؤْتُونَ الزكاوة} وإقامة الصلاة هي إعلان الولاء للخالق الأعلى، ومن له ديمومة لا نهاية لها. والمؤمنون أولياء بعض، ولكن مَنْ وليُّهم جميعاً؟ إنه الله سبحانه وتعالى، ولابد أن يلتحموا بمنهج الولي الأعلى الذي لا نستغني عنه يومًا.
والله سبحانه وتعالى حين وصف المؤمنين أولياء بعض، قال لنا: {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ...} [محمد: 7].
إذن: فلابد أن نتجه جميعاً إلى الوالي الكبير. فهو سبحانه فوق أسبابنا، وفوق قوتنا وهو الذي ينصرنا إنْ عزَّتْ ولاية الأفراد المؤمنين لبعضهم البعض، فنلجأ للولي الكبير. وما دامت الولاية لله الحق، فلابد أن نستديم في ولائنا له سبحانه وتعالى.
واستدامة الولاء لا تكون إلا بالصلاة. وساعة تسمع المؤذن يقول: (الله أكبر) تسرع إلى الصلاة. لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى- وهو ربك وصانعك ووليك- قد دعاك إلى الصلاة، فلابد أن تجيب الدعوة.
فإذا أحببت أن تزيد على الصلوات الخمس وتكون في معية الله دائماً فافعل، بعد أن تكون قد أدَّيْتَ ما فرضه سبحانه عليك من خمس صلوات في اليوم الواحد، وحين تُعْرَض الصنعة على صانعها خمس مرات كل يوم ففي هذا صلاح الإنسان. وأنت إنْ جئتَ بأي آلة وجعلتَ المهندس الذي صنعها يراها كل يوم خمس مرات فلن تعطب أبداً.
كذلك الإنسان وهو صنعة الله، إذا عرض نفسه على الله خمس مرات كل يوم فإن العطب لا يدخل إلى نفسه. والصانع من البشر حين تعرض عليه الآلة فيصلحها بماديات، سواء كان باكتشاف نقص في الوصلات الكهربية أو كسر في أي شيء، فالمادة تصلح بالمادة، ولكن الله سبحانه غيب، ولذلك فهو يصلحنا بالغيب، فلا تعرف ماذا فعل بك وأنت واقف أمامه تصلي. لكنك تشعر بلا شك أن شيئاً فيك قد انصلح.
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر- أي كان هذا الأمر فوق طاقته- قام إلى الصلاة؛ لأن أسبابه لم تستطع أن تفعل شيئاً فيتجه إلى المسبب، ويقف بين يديه؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يملك الحل، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول لبلال: أرحنا بها يا بلال كأن الراحة بها، أي اجعل ملكاتنا تعتدل بالصلاة.
لذلك كان لابد أن يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَيُقِيمُونَ الصلاوة} لأن الصلاة استدامة الولاء لله، والحق تبارك وتعالى يريدنا أن نكون موصولين به سبحانه، وهذه الصلة تتم بالصلاة فرضاً خمس مرات في اليوم، وترك سبحانه الباب مفتوحاً لتطوعك، فلا تترك ساعة تستطيع أن تكون فيها بين يدي الله إلا فعلت.
ولكي تعرف الفرق بين سيادة الله وسيادة البشر، فإنك إذا ضعفت أٍسبابك أمام شيء، فإنك تطلب أن تقابل من هو أعلى منك مركزاً، فهو يملك أسباباً لقضاء حاجتك، فإذا طلبت مقابلته قد يقول نعم، وقد يقول لا.. فإذا قال نعم، يسألك عم ستتكلم فيه.. فإذا قلت: إنك ستتكلم في كذا، حدد لك الساعة واليوم والمكان ومدة المقابلة.
ولكن الحق سبحانه وتعالى لا يفعل هذا. أنت تذهب له في أي وقت تشاء، وفي أي مكان تشاء، وتتكلم فيما تريد، وهو سبحانه لا ينهي المقابلة أبداً، أنت الذي تنهي المقابلة مع ربك.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يمل الله حتى تملوا».
والحق جل جلاله لا يشغله شيء عن شيء؛ ولذلك فهو يقابل كل عباده في وقت واحد، ويستمع إليهم في وقت واحد، ويُجيبهم إلى ما يطلبون في وقت واحد.
ويقول سبحانه: {وَيُقِيمُونَ الصلاوة وَيُؤْتُونَ الزكاوة} والصلاة تأتي مع الزكاة باستمرار؛ لأن في الصلاة استدامة ولاء لله المعطي، وفي الزكاة استبقاء حياة من يستحق أن تعطيه، فأنت تعطيه لتستبقي له حياته فيواصل الولاء لله معك؛ لأنه لا ولاء إلا بحياة، وأنت تساعده على استبقاء هذه الحياة؛ ولأن الزكاة إعطاء مال للفقير، والمال يأتي بالعمل، والعمل يحتاج إلى وقت، إذن: فأنت ضحيت بجزء من وقتك لتتصدق به، وفي الصلاة ضحيت بوقتك في أوقات محددة.
وفي الأوقات التي تعمل فيها هناك استدامة الولاء، بأن تخصص جزءاً من أثر هذا الوقت للزكاة، فلا يكون كل وقتك للعمل، وإنما يكون وقتك فيه عمل وفيه عبادة، فحين تخصص جزءاً من مالك الذي سيأتيك من العمل للزكاة تكون قد زكَّيت الوقت بالصلان، وزكيت المال بالعطاء.
ويقول الحق: {وَيُقِيمُونَ الصلاوة وَيُؤْتُونَ الزكاوة وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ}. وقد ذكر الحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. وهذه كلها طاعة لله بإقامة أركان الإسلام، فلماذا يقول سبحانه: {وَيُطِيعُونَ الله}؟
نقول: الله سبحانه ينبهنا إلى أن أركان الإسلام الخمسة وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليع سبيلاً، هذه الأركان ليست هي كل الإسلام. بل هي القواعد التي بُني عليها الإسلام؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمس"، إذن: فهذه هي الأعمدة أو الأسس التي بُني عليها الإسلام. ولكن الإسلام هو كل حركة في الحياة تصلح ولا تفسد، وتسعد ولا تشقي، ولذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن نفهم أن الإسلام ليس فقط بالأسس التي وضعت، ولكن لابد من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمرنا به في كل حركة الحياة.
وحركات الحياة كلها متكاملة، وإذا نظرت للشيء الذي تستفيد به تجده وليد حركات متعاقبة ممن سبقوك حتى آدم عليه السلام، فإذا أخذنا أبسط الأشياء وهي وضع خميرة في عجينة الخبز؛ وكيف عرفنا هذا؟ نجد أننا أخذناها جيلاً عن جيل. والذي بدأها ألهمه الله بحادث يقع أو بخطأ يتم إلى أن وصل إلى قيمة وضع الخميرة في العجين ليكسب الخبز طعماً، ومعظم مبتكرات الحياة قد أتت بالصدفة أو نتيجة أخطاء. فالبنسلين- على سبيل المثال- اكتُشِف نتيجة خطأ. وقاعدة أرشميدس التي بنيت عليها نظريات الغواصات اكتشفت نتيجة ملاحظة ألهمها الله لأرشميدس. وحين يأتي ميلاد كشف جديد للبشرية، فسبحانه يهدي خلقه إلى هذا الكشف ولو كان بخطأ يقع منهم.
ومثال آخر: ما الذي جعلك تفهم أن اللحم حين ينضج على النار أو يُشوى يكون طعمه أحلى؟ ما الذي جعلك تطهو بعض أنواع الخضراوات ولا تطهو أنواعاً أخرى.
كل هذا هدانا إليه الله.
{الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 2-3].
إذن: فكل ما ننتفع به في حركة الحياة، قد أتانا من أجيال مضت؛ ولذلك من يأتي ليقول: سأنقطع للعبادة صلاة وصوماً؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
نقول: سنوافقك على انقطاعك للصلاة والصوم فقط. ولكنك لكي تصلي؛ أنت تحتاج إلى طعام يعطيك القوة والقدرة لتصلي وإلا فسيستحيل عيلك أداء الصلاة. هَبْ أنك ستأكل رغيفاً من الخبز فقط، من أين تأتي بهذا الرغيف؟ من البقال. ومن أين أتى به البقال؟ من المخبز. ومن أين جاء المخبز بالدقيق؟ من المطحن. ومن أين جاء المطحن بالقمح؟ من مخزن الغلال. ومن أين جاء المخزن بالقمح؟ من المزارع. والمزارع أتى بمحاريث وآلات من المصانع لكي يحرث الأرض، وجاء بآلات لكي يسقي.
إذن: فأنت لا تستطيع الانقطاع للعبادة إلا إذا استنفدْتَ بحركة غيرك، وكل عمل ذكرت فيه الله هو عبادة، وكل حركة في الحياة تعينك على أداء العبادة هي عبادة.
ومثال آخر: لكي تصلي لابد أن تستر عورتك في الصلاة، إذن: فأنت تحتاج إلى قماش تأتي به من التاجر، والتاجر أتى به من مصنع النسيج، ومصنع النسيج أتى به من مصنع الغزل، ومصنع الغزل أتى بالقطن من المحلج، والمحلج جاء به من الحقل، والحقل جُنِّدَتْ له معامل الدنيا ليعطيك أوفر محصول، ويقي القطن مكن الآفات. كل هذه من حركات الحياة التي مكَّنتْكَ أن تستر عورتك في الصلاة، وكل منها عبادة.
إذن: كان من الضروري أن يقول {وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ}. بعد {وَيُقِيمُونَ الصلاوة وَيُؤْتُونَ الزكاوة}... فبعد أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة عليهم أن يطيعوا الله في الإسلام الذي بني على هذه الأركان.
ثم يقول الحق: {أولئك سَيَرْحَمُهُمُ الله} وأولئك إشارة إلى كل المؤمنين والمؤمنات الذين هم أولياء بعض، والذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة، والذين يؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، هؤلاء سيرحمهم الله. وأيهما أبلغ: أن يقال أولئك يرحمهم الله، أو يقال سيرحمهم الله؟
الأبلغ أن يقال: {سَيَرْحَمُهُمُ الله} لأن السين تهتك ستار الزمن؛ وبذلك يحيا المؤمن دائماً في رحمة الله التي لا تنقطع.
ولذلك حكى الحق سبحانه وتعالى عن المؤمنين الذين يعملون الصالحات فقال: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً} [مريم: 96].
أي أن الود سيكون مستمرّاً، حتى لمن استمع إلى هذه الآية ثم مات، إنه أيضاً ينتفع بود الله. وأيضاً قال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 5].
ولم يقل: يعطيك ربك، بل جاء ب {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ} لترى عطاء الحق مستمرّاً.
وأنت حين تهدد أحداً لا تقل له: أنا أنتقم منك، بل تقول: سأنتقم منك، أي: أن الانتقام سيستمر مع الزمن.
وقول الحق سبحانه وتعالى: {سَيَرْحَمُهُمُ الله} تعطي أن صفة الرحمة في حق الله سبحانه أعلى من صفة الرحمة في المخلوق؛ لأن التراحم من الخلق على قدر الأسباب، أما الرحمة من الحق سبحانه فتكون بصفات الكمال التي لا تتناهى ولا تنتهي. ومن الرحمة ألا يقع داء، والشفاء أن يوجد داء فيشفى؛ ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ...} [الإسراء: 82].
والاثنان يؤديان إلى سلامة المجتمع من الأمراض الاجتماعية التي تُشْقي الإنسان، وهناك سلامة من أول الأمر. وهناك سلامة ليست من أول الأمر. ومن عنده خصلة سيئة- وهي داء- يشفيه منها القرآن، أما الرحمة فهي ألا يأتي داء ابتداء، ولذلك فالرحمة ممتدة.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ومعنى عزيز: أنه غالب على أمره، وما يريده يقع؛ ولا يُغلب، ولكن إياك أن تفهم أن ذلك عن جبروت ظالم، لا؛ لأنه سبحانه لا يظلم أحداً، ولأنه عزيز بحكمة. وهناك عزيز بلا حكمة، تغريه عزته أن يطغى. لكن الله عزيز حكيم، وعزته ليس فيها ظلم ولا طغيان، ولكنها بحكمة إلهية.
ويأتي بعد ذلك وعد الله للمؤمنين والمؤمنات بالجزاء والنعيم في الآخرة، فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَعَدَ الله المؤمنين...}.
تفسير سورة التوبة للشيخ محمد متولي الشعراوي
تفسير الشعراوي للآية 71 من سورة التوبة