عامر صالح يكتب.. كيف بدأ الأمر؟
بحلول شهر أكتوبر 1347م شق الأسطول التجاري التابع لمدينة جنوى الإيطالية طريقه عائداً من رحلته التجارية إلى الجزء الشرقي من شبه الجزيرة الهندية، ظلت سفنه تمخر عباب البحار حتى وصل إلى ميناء مدينة مسينا Messina الواقع شمال شرق جزيرة صقلية، ومن قبل أن يصلوا، تم الإبلاغ عن معاناة بعض من أفراد طاقم الاسطول من مرض ظل ينخر في أجسادهم، مسبباً آلام مبرحة تؤدي بالمريض للوفاة وذلك في أعقاب ظهور أعراض تتمثل في بثور وتقيحات تصيب سائر الجسد، يعقبها نزيف حاد، في الميناء اتخذ المسئولون احتياطات معتادة، ففرضوا على الاسطول الحجر الصحي، وتم حجز جميع أفراد الأسطول ومنع اختلاطهم، تلك لم تكن النهاية، بل كانت بداية طاعون انتشر كالنار في الهشيم، بعد أن استطاعت جرذان السفينة أن تخرج طليقة حاملة الوباء إلي سائر أراض القارة الأوربية.
الفترة ما بين 1347م حتى العام 1351م، أصيب العالم الغربي بواحد من أخطر الأمراض والجوائح التي ابتليت بها البشرية تحت مسمي الموت الأسود "Black Death" ، اختلفت الآراء حول مصدر المرض لكن الراجح من تلك الآراء أن الشرق الأقصى كان هو مصدره و الشرارة الاولى لظهوره و بخاصة الجزء الشرقي من شبه القارة الهندية، ورغم الاختلاف في المصدر لكن النتيجة كانت واحدة، فقد أصيبت أعداد ضخمة من السكان ولشدته تأثير ذلك المرض ذكر المؤرخون أنه كان سبباً في فناء ما يقرب من ربع إلى نصف تعداد السكان، وزاد المؤرخون في وصفه قائلين :-
"فصار الأب يفر من ابنه، والزوجة من زوجها، والأخ من أخيه، فقد بدا الطاعون وكأنه يتسلل إليهم عبر الرؤية والتنفس ثم الموت"
لم تكن الطواعين أمراً غريبا على العالم الغربي، ففي عهد الامبراطور البيزنطي جستنيان الذي حكم في فترة تراوحت بين 527 حتى 565م اصيبت امبراطوريته بطاعون كان له أكبر الأثر في الحد من طموحاته في ارجاع مجد الامبراطورية الرومانية الغابر، بل انه كان سببا في تسهيل مهمة العرب المسلمين فيما بعد نظراً للكم الضخم من ضحاياه، لكن ورغم ذلك إلا أن الموت الأسود كان هو أشد وأخطر ما تعرضت له أوروبا من طواعين.
ظل الطاعون على حالة ليصبح عاملاً هاماً في تشكيل التاريخ الأوروبي فيما بعد، راسماً حدود دول، ومنهياً آمال حكام وملوك في توسيع ممتلكاتهم.
وفي حين كانت أوروبا تعاني من ذلك الطاعون كان مثيله في الشرق وحوض البحر المتوسط قد بدأ في الظهور والانتشار لكن تحت مسمى آخر ربما يكون أكثر قسوة في التعبير وهو (الفناء الكبير) ورغم أن هذا المرض نظرا للتطور الطبي حينها لم ينتشر في العالم العربي كما هو الحال في العالم الغربي، ورغم أن الطاعون لم يستمر في مصر سوى عامين (748-750هـ) الموافق الفترة من 1347 حتى 1349م، لكن تأثيراته المميتة كانت دافعاً لتكون عبارات وصفه في المصادر التاريخية هي الاصعب توصيفاً على الإطلاق، فقد قال عنه شيخ المؤرخين المقريزي في تحفته المسماة (السلوك في معرفة دول الملوك) واصفاً مدينة القاهرة:-
"... فقد أضحت خالية مقفرة، لا يوجد في شوارعها ما، بحيث أنه يمر الانسان من باب زويلة إلى باب النصر، فلا يري من يزاحمه، لكثرة الموتى والاشتغال بهم، وعلت الأتربة الطرقات... فلا تمر بشارع إلا وفيه عدة أموات، فصارت النعوش لكثرتها تصطدم والأموات تختلط،... ويقال بلغت عدة الأموات في يوم واحد عشرين ألفاً، وأحصيت الجنائز في القاهرة فقد في مدة شعبان ورمضان نحو تسعمائة ألف..."
كما أسهب بالتوضيح كيف لحقت الندرة بأصحاب الحرف، وفي جملتهم المقرئون والحمالون وحفارو القبور لكثرة الموتات، واصفاً ما ترتب على ذلك من حراك اجتماعي صاعد، فأصبح البعض من أصحاب العقارات لهلاك أصحابها الأصليين ويتشابه ذُكر ذلك مع ما تم ذكره في ملحمة الحرافيش حين عاد عاشور الناجي برفقة زوجه وابنه شمس الدين ليجد أن حارته قد خلت على عروشها لموت كافة أهلها فسكن دار واحد من الأغنياء الذين فنوا في هذا الفناء، كما أن المقريزي أوضح أن أوان حصاد الزروع قد أتي ولم يكن في الامكان توفير عمالة للقيام بتلك المهمة، فخرج الأجناد وغلمانهم منادين:- "من يحصد ويأخذ نصف ما يحصده"، فلم يجدوا من يساعدهم على حصد الزروع، وعجزوا عن كثير من الزرع فتركوه.
ولم يفت أن يخلد الشعراء آثار تلك الجائحة فيقول ابن نباته (ت: 768هـ)
سر بنا عن دمشق يا طلب العيـ ش؛ فما في المقام للمرء رغبة.
رخصت أنفس الخلائق بالطا عـون فيـها، فكـل نفس بحبـــّة.
وعلى نهجة قال أحد الشعراء وهو ابن المعمار (ت 749هـ) والذي كان شاعراً شعبيا مات بالطاعون:
قبح الطاعون داءً فقدت فيه الأحبة
بيعت الأنفس فيه فكلُّ إنسان بحبـَّــه
ويوصف لفظ (حبَّة) كتورية واضحة عن الدُمَّل الكبير.
وعلى مدى قرون تالية ظلت الطواعين ظاهرة عامة متتالية جائحة بعد أخرى حتى صارت سبباً في تقلص عدد سكان مصر ليصلو لنحو لا يجاوز ثلاثة ملايين نسمة بعد أن كان أضعاف ذلك، وذلك حتى همدت تلك الجوائح وانطفأت سعيرها وذلك في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي.
وبالطبع كما هو الحال في أوروبا والعالم الغربي كافة فلم تلك هي المرة الاولى التي يضرب فيها الطاعون العالم الإسلامي فطاعون "عَمواس" كان قد اجتاح بلاد الشام في زمن الفتوحات الاسلامية لها، فراح ضحيته الآلاف من المجاهدين المسلمين، وكان في مقدمتهم القائد المسلم وأحد الصحابة الأجلاء " أبوعبيدة عامر بن الجراح"
ربما كان هذا الطاعون كغيره من الأمراض الجائحة التي لم تكن لها من علاجات فعالة فلم يعد متاح سوى أساليب الوقاية وعلى رأسها العلاجات الاجتماعية، فكانت نصيحة الأطباء دوما بالابتعاد قدر الإمكان عن أي زحام أو اختلاط والتزام الدور بعيدا عن أي تلامس، حتى كانت الخليفة عمر ابن الخطاب قد طالب الناس بالابتعاد عن بعضهم البعض قدر قد الإمكان حتى كان ذلك نواة ليظهر فيما بعد مصطلح الحجر مضافاً له لفظة "الطبي" كتعريف له فعرف اللغويون الحَجْر الصِحِّيّ، أنه عزل الأشخاص أو الحيوانات أو النبابات الوافدة من منطقة موبوءة بالأمراض المعدية للتأكد من خلوهم من الأمراض المعدية، الأمر تجاوز المعنى ليصبح واقعاً، له تاريخ
وقد أضيف إلى ذلك عدد من الإجراءات الوقائية، منها القيام بعمليات التطهير الدورية اليومية، سواء للمدن بصفة عامة أو المنزل، وكذلك محاولة تنقية الهواء عبر اشعال نيران مختلطة فيها البخور، بالإضافة إلى العمل على تبخير المنازل وتقوية المناعة عبر تناول الخضروات والعصائر الطازجة.
ما أشبه اليوم بالبارحة، لربما كانت قرون قد مرت، ظننا فيها أن ما من مرض إلا ونحن عليه قادرون، لكننا تناسينا ان غضبة الأرض لا تغلب وقسوة الطبيعة لا تُقاوم، ورغم ذلك لكنها تبجل من يُقاوم فالموت أحياناً لا ينتظر أن نجد منه النجاة. لكن الأمل قائم دوماً، فما من داء إلا وخلق الله له الدواء.