تنهَض إفراج، من غَفوتها التي لا تتعدى ساعتين يوميًا- مُنذ بدء وزارة الداخلية في تطبيق قرار حظر التجول، ضمن إجراءات الحد من تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)- ، على صدُوح إذاعة القرآن الكريم بالتواشيح الدينية، إيذانًا بقرب رفع أذان الفجر، متسلِّلة من بيتها بخطواتٍ مُتثاقلة، قاطعة عشرات الأمتار، حتى انصبَّت قدميها أمام المخبِز الكائِن عند أطْراف قريتها الصغيرة التابعة لإحدى مراكز محافظة الدقهلية، وشرعت في اِنبساط خضرواتها على الأجولة البلاستيكة المُفترَشة على الأرض، بعد تعقيمها بمحلول الخل والماء "بفضل أرش الخضار كل شوية علشان محدش يخاف مني.. وأغسل إيدي كل ما يعدي حد.. ما هو صعب اجيب كمامة وجوانتي دول بتمن خمس ربط خس.. ومعافرتي في الغيط طول اليوم".
لاَح الفجر، ودَبت الحركة في الشارع، ويدي السيدة صاحبة (59 عامًا)، مُنهمِكة في تنظيف الخضار ونزْع القشور اليابسة، شاخصة بصرها صوب صفوف الخبز المُكتظة بالأطفال والنساء والرجال- رغم مخاطر الوباء المستجد الذي تنتشر رقعة عدواه في الازدحام-، في انتظار خروج أحدهم عقب حصوله على حصته، وشراء ما يحتاجه من الخضار المتنوع، كعادتهم كل صباح، ولكن باغتها تَصرف البعض "بيفضلوا يقلبوا في الحاجة ويسألوني فين الجوانتي ويمشوا". تَعبس وجهَها وضرَبت كفًا بكف، حتى انتشلها زبونها العم فتحي، "أم الخير"، كما يحلو له أن يُناديها، مُحاورها في بعض أنباء الفيروس، ريثما ينتهي من حسابها بعدما أحضرت له طلبه اليومي.
لهَثت كاسبة القوت، من عدم نومها، لاسيما وأن يومها اختلف بشكل كلي "كنت بسرح الغيط العصر وأرجع قرب العشا أشوف أمور بيتي وأنام لحد الساعة 6.. دلوقتي لازم أكون قبل الظهر في الأرض علشان أحش الزرع الأول وبعدين اشتريه بحق يوميتي وأرجع على المغرب"، مُعللة أن قوات الأمن أوقفتها أكثر من مرة لاختراقها ساعات الحظر "كانوا ولاد حلال وفهموني اللي بيحصل لحد ما عرفت إني لازم اتصرف". يعلو صوت دقات الساعة المُنبعثة من مذياع المقهى المُحاذية لفَرشتها-والتي تأخرت في بدء نشاطها وفقًا لقرار "الحظر"، خاصة أنها كانت تفتح بعد أداء العاملين بها فريضة الفجر-، لتشير إلى السادسة صباحًا، تُقاطعها أصوات بعض السيدات بإلقاء التحية عليها، مطالبن بعض حزم الخس والبصل، اِنفرج همها "فرجت اهي".
أومأت الأم لأربعة أبناء، برأسها لصبي المقهى- الذي اعتاد على وجودها بالمكان-، مطالبة إيَّاه بإحضار كوب من الشاي، لتروَّح عن نفسها، بعدما اِلتهبت كُفوفها من شدة إحكام حزم الخضار بالقشُّ، يتوافد عليها وجوه مرسوم على معظمها الشقاء، لا يكترثون للأزمة "هاتي ايدك الأول أرشها الخل.. وبعدين اشتروا"، يستغربن إحداهن، لحرص المرأة-التي تعتزل أبنائها وأحفادها، بعد عودتها يوميًا من عملها-، مستمرة في هذا المهام بجانب عملها بين الفينة والأُخرى، ليهرول إليها العديد من المواطنين، خاصة السيدات، اللائي تسألن عن كيفية تركيب المحلول المُكون من الماء والخل "لازم نعدي الأزمة على أد إيدينا".
عُرفت إفراج، بِمحبتها للغير وتفضيلهم على نفسها، لذا تظل السيدة- التي تساهم أبنائها في تربية أحفادها، والماكثين معها في منزل واحد-، طيلة الوقت في حيرة من وجودها بالقرب منهم، فاستعانت ببناتها؛ للقيام بالمهام المنزلية "بطلع على السطح وأفضل قاعدة بعيد عنهم.. ولفة طرحتي على وشي ولما اطمن أن بناتي رواحوا والكل نام في بيتي بنزل أريح شوية"، وبرغم من النومُ يغلبها، إلا أنها ظلت مكانها، شاردة في مشاكلها، دون أن تعلم توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي، بتخصيص منحة للعمالة غير المنتظمة المتضررة من تداعيات أزمة كورونا مقدارها 500 جنيه شهريًا لمدة ثلاثة أشهر، والتي بدأت في تنفيذها وزارة القوي العاملة في السابع من إبريل الجاري "ياريت والله أهي نواية تسند الزير.. بس خلاص راحت علية.. وهستنى المنحة الجديدة".