عادل حمودة يكتب: دروس فيروس كورونا
الملياردير نجيب ساويرس يتجاهل تحدى الخير لإنقاذ الفقراء وشقيقه يطالب الحكومة بدعم رجال الأعمال
الوباء فضح الرأسمالية ووسائلها القذرة فى استغلال الأزمة
يجب أن تسترد الحكومات سيطرتها المفقودة وتقود العالم قبل فوات الأوان
التضحية بالكبار فى إيطاليا ولا أتصور أننا كنا سنضحى بأم كلثوم أو نجيب محفوظ بحجة أنهم عواجيز
لن يجدى ما جمع رجل أعمال من مليارات لو لم يجد لقمة خبز ولقمة رحمة فالأوبئة المجهولة تساوى بين الجميع
يبدو أن فيروس كورونا حول نجيب ساويرس من رجل أعمال إلى رجل دين!.
سئل: ما خطواتك أو استثماراتك الخيرية للتقليل من انتشار المرض؟.
أجاب: الصلاة.
لكن من سوء الحظ أنه لن يستطيع ممارسة دور القس بعد أن أغلقت الكنائس أبوابها.
كان لاعب الكرة سعد سمير قد بدأ ماراثون تحدٍ لمساندة الأسر التى تضررت بسبب الفيروس شارك فيه شريف إكرمى وطارق حامد وأحمد فتحى وأحمد عيد وشيكابالا ثم انتقل إلى الفنانين ليستجيب إليه تامر حسنى وأحمد رزق وأحمد فهمى وكريم عبد العزيز ومحمد رمضان الذى دعا نجيب للمشاركة فكان ما كان.
إن عائلة ساويرس جنت من مصر ما يزيد على عشرين مليار دولار (ما يقترب من نصف الاحتياطى النقدى من العملات الأجنبية) لكنها بدت على ما يبدو غير مستعدة لتلبية واجب اجتماعى طارئ فرضته كارثة كورونا مثلما فعل رجال الأعمال فى مختلف دول العالم.
بيل جيتس (الولايات المتحدة ــ 100 مليون دولار) وعثمان بن جلول (المغرب ــ 103 ملايين دولار) ولى شينج (هونج كونج ــ 13 مليون دولار) وجاك ما (الصين ــ 5 ملايين دولار) وجورج أرمانى (إيطاليا ــ 3 ملايين دولار) وتنازل عمر الفطيم (الإمارات) عن 100 مليون دولار إيجارات مستحقة لمستأجرى المحلات فى مراكزه التجارية مثلا).
بل أكثر من ذلك طالب سميح ساويرس الحكومة بمساندة أصحاب الفنادق الذين أضيروا من الفيروس بمن فيهم هو شخصيا بصفته المسيطر على الجونة ومنتجعات أخرى.
لم يكفه ثروة تقترب من ثلاثة مليارات دولار ويريد تعويضا عن خسائره بسبب كورونا.
وقطعا سيلفت النظر أنه وشقيقاه ناصف ونجيب كانوا من قبل يعتبرون الحكومة رجسا من عمل الشيطان يجب أن يتجنبه اقتصاد السوق الحرة فلم يتذكروها الآن؟.
والحقيقة أن فيروس كورونا كشف النظام الرأسمالى ونزع عنه ورقة التوت ووضعه عاريا عاجزا أمام أنصاره قبل خصومه.
إن خسائر الدول الرأسمالية فى أفضل التقديرات لن تقل عن 12 تريليون دولار (التريليون ألف مليار) ستتحمل الولايات المتحدة ثلثها وحدها.
وتدخلت الحكومة ببرنامج عاجل لرعاية ملايين العاطلين بعد إغلاق الشركات والمصانع يوفر الحد الأدنى من الطعام (الحليب والخبز واللحم) على أن يبقوا فى البيوت دون أن يثق أحد منهم فى أنه سيعود إلى عمله من جديد.
وحاولت حكومات أخرى تقليص الضرر الذى أصاب الأجيال الجديدة بوضع برامج للتعليم عن بعد عبر الكمبيوتر بعد أن أغلقت المدارس والمعاهد والجامعات.
لقد أصبح الديجيتال قرارًا إجباريا على حكومات الدول النامية تنفيذه فى التعليم والتوظيف وتوفير الخدمات وتوثيق العقود والزواج والطلاق والمعاملات المالية وربما التصويت فى البرلمانات أيضا.
ولم يعترف النظام الرأسمالى بعجزه عن مواجهة الأزمة فقط بل كشف عن مدى القبح فى سلوكياته عندما رفضت الحكومة الإيطالية علاج كبار السن من الفيروس وتركتهم يموتون بدعوى توفير الرعاية الطبية المحدودة لصغار السن مضحية برموزها الأدبية والعلمية والفنية والخبرات الرياضية والتعليمية التى تجاوزت الستين.
إن من حسن الحظ أن كتاب إيطاليا الكبار مثل البرتو مورافيا ولويجى بيرندلو وجبريال دانازيو ماتوا قبل أن يطبق عليهم قرار الحكومة الحالية.
تصوروا مدى شعورنا بالخزى والعار لو رفضنا علاج كتاب فى قامة نجيب محفوظ ومطربة فى موهبة أم كلثوم ومخرج لا يتكرر مثل يوسف شاهين وصحفى فى شهرة محمد حسنين هيكل لو أجبرتنا الظروف الصحية على تركهم يموتون بدعوى أنهم كبار فى السن.
وتضاعف القبح فى سلوكيات النظام الرأسمالى باستغلال التجار مخاوف الناس بزيادة أسعار السلع كل نصف ساعة كما حدث فى نيويورك.
وكان لابد للحكومات أن تتدخل لتسترد سلطتها من الرأسماليين الذين سيطروا على كل شىء فى المجتمعات وعجزوا عن مواجهة الأزمة بل لم يتوقف أغلبهم عن الاستفادة منها وإن تبرع بعضهم بقليل مما كسب لحفظ ماء الوجه.
أكثر من ذلك كان تدخل الحكومات فضيلة غائبة لتحجيم السلوكيات البشرية الشرسة التى تنفجر فى الأزمات وتفقد الإنسانية كل ما اكتسبت من قيم أخلاقية راقية وحضارية وتعيدها لتصرفات العصور الحجرية.
ولو لم تتدخل الحكومات بكل ما لديها من مؤسسات مدنية وأمنية وعسكرية فإن مصير المجتمعات لن يخرج عن التصور المؤلم الذى وضعه الكاتب البرتغالى جوزيه ساراماجو فى رواية العمى.
وساراماجو (تعنى بالبرتغالية الفجر البرى) ولد عام 1922 فى قرية قريبة من لشبونة.. والده كان شرطيا.. عجز عن تكاليف التعليم.. عمل ميكانيكى سيارات.. وقضى سنوات طوال فى القراءة حتى أصبح صحفيا ومترجما.. وبعد أن تمكن من إعالة نفسه تفرغ للكتابة الروائية.. وبرع فيها حتى فاز بجائزة نوبل.. ولكن الأهم أنه وصف قبل وفاته فى عام 2010 بأنهم أعظم الروائيين على قيد الحياة.
تبدأ الرواية التى نشرت عام 1995 بإصابة شخص يعبر الطريق بالعمى وما أن فحصه الطبيب حتى أصيب هو أيضا بالعمى وسرعان ما انتشر الوباء الذى لم تنج منه سوى زوجة الطبيب.
وضعت مجموعة العميان الأولى فى العنبر الأول من الحجر الصحى تحت حماية الجيش.. عاش مصابوها معا كعائلة واحدة تقاوم الظروف الصعبة التى وضعوا فيها.. ولكن.. مع تحول العمى إلى وباء فتح عنبر آخر.. وعنبر ثالث سكنته عصابة مسلحة تحكمت فى الطعام والشراب والدواء بسبب سوء التنظيم الحكومى وفرضت على باقى العنابر تقديم ما لدى الرجال والنساء من أشياء ثمينة (ساعات وخواتم وحلى وثياب) وإلا حرموا من وسائل الحياة.. وبعد أن نفدت الأشياء الثمينة بدأت العصابة فى طلب النساء وإلا مات الرجال من الجوع والعطش والمرض.
بعد جدل طويل استسلم الرجال وأرسلت النساء فى طابور وهن منكسات الرأس وكأنهن أبقار تساق للذبح واختار زعيم العصابة لنفسه باللمس اثنتين.. كانت زوجة الطبيب المبصرة واحدة منهما.. وبسهولة نجحت فى الحصول على السلاح وقتلت به الرجل.
تقود زوجة الطبيب تمردًا من العميان المصلحين ينتهى بحرق المبنى بعد ان اكتشفوا أن الحكومة عجزت بكل ما تملك من قوة فى حفظ النظام الذى انهار بغياب القانون والخدمات ووسائل الاستقرار وسيطرة الطبيعة الحيوانية الشرسة على غالبية البشر.
ولا تكشف الرواية عن اسم مكان أو أسماء شخصياتها بل تشر إليهم بصفاتهم: الطبيب.. زوجة الطبيب.. الرجل ذو السلاح.. زوجة الأعمى الأول.. لص السيارة.. مثلا.
أراد ساراماجو أن يعمم تصوره دون تخصيص دولة بعينها وكان من السهل أن نصل إلى ما يريد: إن الأوبئة المجهولة تصيب الشعوب بالفزع وتصيب الحكومات بالعجز ولو لم يتضامن الجميع ــ متناسين خلافاتهم الدينية والسياسية والمالية ــ فإن الإنسان يتحول إلى حيوان لا يهمه سوى نفسه وستحكمه غرائزه وتفرض عليه القتل والنهب والاغتصاب متصورا أنه سينجو بمفرده ناسيا أن القوى سيصرعه الأقوى منه.
لن يجدى ما جمع رجل أعمال من مليارات لو لم يجد لقمة خبز ولقمة رحمة فالأوبئة المجهولة تساوى بين الجميع وما لم يتضامن الجميع فإنهم جميعا سينتهون فى مقابر جماعية إما بفعل الفيروسات أو بأسلحة العصابات.