د. رشا سمير تكتب: تركنا الفساد.. فـ"ساد"
أعود لأرشيفى الأدبى وأتذكر أننى كتبت عن الفساد مائة مرة، وأتصور أننى سأكتب عنه ألف مرة أخرى.. وسأظل أكتب عنه حتى ألمح بصيص أمل فى النجاة من براثن الجهل والتردى.
الفساد فى مصر أصبح مثل الدين، مذلة بالنهار وهمٌ بالليل..
كان الفساد يوما فسادا ماليا وإداريا، ثم تحول دون سابق إنذار إلى فساد أخلاقى ومجتمعى ونفسى وذممى.. إلخ..
هكذا انفلت المجتمع وهكذا تحول الحق إلى باطل.. وهكذا انقلبت الموازين.
تلك هى المُعضلة الأساسية فى قضية أغانى المهرجانات ومنع الكُتب المخجلة من سوق الكتاب والتصدى للإسفاف الثقافى بالمنع.
فى رأيى الشخصى، أن منع الأشياء لا يزيدها إلا تكاثرا وتوحشا، لأنها دعوة للنفس الإنسانية لأن تبحث فى الظلام.. فكل ممنوع مرغوب، هكذا علمتنا القاعدة الشعبية، ومنع الشىء يُضاعف الإقبال عليه.
لم تكن مشكلة تدنى المجتمع أو سقوطه المدوى فى مستنقع من الابتذال سببه فقط أغانى المهرجانات التى لا اتفق معها ولا أشجعها إطلاقا، ولكنى أرى أن الحكاية تعود إلى البداية، تعود إلى أننا تركنا الابتذال حتى تفشى وأصبح عنوان المرحلة..
عندما احتضنت الدولة محمد رمضان وصنعت منه أيقونة ومثلا أعلى يُحتذى به، وعندما استعانت به وزارة التضامن فى حملة لمكافحة المخدرات وكأنه بطل قومى مع الشاب المحترم فخر مصر والعالم محمد صلاح، كانت الفكرة حقيقية، ومن المؤكد أنها تنصب فى خلق صورة محببة إلى نفوس الشباب من أناس أقرب إليهم يمثلونهم فى المنشأ والبيئة وربما الظروف.. ولكن، فى حرب الأسلحة الفاسدة تعودنا أن ترتد الطلقات إلى الصدور، فالفارق كبير والمقارنة معدومة بين شاب مجتهد مثل محمد صلاح صنع نفسه بنفسه ولم يتنكر لأهله وجيرانه وحين وصل إلى القمة، لم يتنصل من أصله لأن الأصل هو أصل الحكاية، وبين شاب أصبح يتفاخر بسياراته وطياراته ويتفنن فى إطلاق الأغانى الهابطة كل يوم ناسيا أو متناسيا، وربما غير مدرك، أن الفن رسالة وقدوة وقيمة حقيقية..
هنا أنا لا ألوم الفنان محمد رمضان ولكنى ألوم من صنعوه ومن نفخوا فيه حتى انفجر فى وجوههم، ثم سنوا السكاكين لمحاسبته، بعد فوات الأوان!..
بالمثل أنا لا ألوم مُطربى المهرجانات بل ألوم من أفسح لهم الطريق ليظهروا ويترعرعوا مساهمين فى تلويث الكلمة والمعنى والنغمة.. ألوم من تركهم يظهرون فى الأفراح ويظهرون فى المناسبات الرسمية وغير الرسمية دون تصريح رسمى أو إذن..
ألوم أيضا مسئولى التعليم والثقافة لإهمالهم التعليم والثقافة، فأصبح الفراغ الدماغى للشباب هو دعوة مفتوحة لكل من يريد احتلالها، حتى باتت تلك الأغانى هى صورة مصر ودلالة المجتمع فى وقت تردى فيه كل شىء.
بالمثل وجدت نفسى أتساءل وأنا أتابع الحرب الواهية على مواقع التواصل الاجتماعى عقب وفاة الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك رحمة الله عليه، بين متعاطف وشامت ومُهلل ومؤيد.. وبين من حملوه كل فساد الدنيا، ومن عفوه من كل أثامه..
الحقيقة العارية أن الرجل بين يدى الله سبحانه وتعالى، وأن التاريخ بالفعل سيذكر ما له وما عليه، والإنسان بين يدى الله لا يجوز عليه إلا الرحمة..
هل أفسد بمفرده؟ أم أفسد فى أرض حرثها كل الفاسدين حوله؟! وهل هذا يعفيه أو يعفى غيره من المسئولية؟.. . العلم عند الله وحده، والحساب بيده وحده.. فلا تنصبوا أنفسكم حكاما وقضاة.
نحن صناع الفساد.. نحن جميعا دون استثناء، ولو كان هناك راع مسئول عن رعيته وهذا مما لاشك فيه، إلا أن كل منا فى مكانه مسئول بشكل أو بآخر.. البطانة حول كل مسئول هى سبب كبير فى تداعى القرارات والفشل.. فهل يلتحف بهم أم يلتحفون به؟!
الفساد لن ينتهى بمنع أغنية أو مصادرة كتاب أو وفاة مسئول.. الفساد هو الإرادة الحقيقية لبشر أصبح هذا المُناخ لهم مرتعا لا يستطيعون العيش بدونه..
فساد الكلمة والمعنى والقدوة هو دون شك الحرب العالمية الجديدة.. لأنها حرب ضد الهوية وضد الشخصية المصرية، حرب لم تعد الطلقات والمدافع فيها هى السلاح، بل بات الفكر سلاحها، والهدف فيها هو القضاء على جيل قادم.. والله المستعان.