د. رشا سمير تكتب من الدار البيضاء: كازابلانكا عاصمة الجمال والكتاب
لم تكن تلك سفريتى الأولى للمملكة المغربية، ولم تكن خطواتى من مسجد الحسن الثانى إلى منطقة الحبوس والمدينة القديمة هى نفس الخطوات التى ساقتنى من قبل إلى الأماكن ذاتها..
فالمغرب عروس ترتدى يوم وصولك إلى رحابها ثوب الزفاف الأبيض ثم تنام فى دلال بين أحضان زائريها كل ليلة بثوب جديد.
كيف تحتفظ فاس بحضارتها؟ وكيف تضوى مراكش بكافة الجنسيات التى تلتحم حول ساحة جامع الفناء؟ وكيف تلتقى الأرواح فى صومعة حسان بالرباط؟ أو تشدو شفشاون بالعشق؟ وكيف تحمل أغادير العود لترسُم الموسيقى فى لوحة من الفن الأصيل؟.
الإجابة ببساطة: إنه المغرب العربى..
الوطن الذى يتميز كل مكان فيه بطابع مختلف ومذاق خاص ولون متفرد..
وهكذا هو معرض كتاب الدار البيضاء بالنسبة إلى، مختلف ومتفرد.
1- رحلتى القصصية:
كان لى شرف حضور كثير من معارض الكتاب الدولية والعربية كروائية من القاهرة، وكانت الحفاوة دائما هى عنوان الاستقبال، ولكن الحقيقة أن المغرب مازالت تقبع فى مكان مختلف بقلبى ومازالت حفاوة شعبها بالشعب المصرى له مذاق خاص.
يكفى أن تدخل فى أى مكان بالمغرب وتُلقى التحية..فيأتيك السؤال على الفور: أنت مصرى؟.
وهنا تنفتح أمامك أبواب مغارة العشق السحرى.. حقا، الثقافة والفن هما خير سفير للدول.
كان لى شرف المشاركة فى ندوة أدبية مع قامات مغربية كبيرة مثل الأساتذة الكاتب عز الدين التازى والقاص المحترم أنيس الرافعى، للحديث عن تجربتنا فى كتابة القصة القصيرة.
2- افتتاح ملكى:
لأن ثمة أكثر من وشيجة أخوية وروابط تاريخية تربط المغرب بموريتانيا على امتداد تاريخ طويل من العلاقات التاريخية والثقافية المتشعبة الأبعاد، فقد وقع الاختيار على موريتانيا كى يكون ضيف شرف هذه الدورة، التى شارك بها ٧٠٠ عارض مباشر وغير مباشر يمثلون أكثرمن ٤٠ بلدا.
كما ترأست الأميرة لالة حسناء تحت رعاية سمو الملك محمد السادس افتتاح المعرض ورافقها وزير الثقافة والشباب والرياضة الناطق باسم الحكومة الحسن عبيابة، وحضرت أيضا الأستاذة لطيفة مفتقر مندوبة المعرض والتى كان لها بصمة واضحة على المعرض هذا العام.
كان ضمن الحضور أيضا الكاتب عاطف أبو سيف وزير ثقافة فلسطين، والشيخة مى بنت محمد آل خليفة رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار.
الحقيقة أن معرض كتاب المغرب منذ انطلاق دورته الأولى فى أكتوبر ١٩٨٧ وهو يحظى برعاية ملكية ودعم جلالة الملك محمد السادس.
المختلف فى معرض المغرب هو الحرص الحقيقى على تقديم مثقفين ومبدعين، والاستضافة لا يحظى بها إلا أصحاب الأقلام والأصوات القيمة من المبدعين، وليس من يمتلكون متابعين على السوشيال ميديا ومدعى الثقافة! كما أنها فرصة حقيقية للكتاب والروائيين للانفتاح على الثقافة المغربية وكُتابها، حيث الثقافة الحقيقية.
3- البحرين عاصمة الثقافة فى ضيافة المعرض:
أسعدنى الحظ أنا أكون ضمن حضور ندوة ألقتها الشيخة مى محمد آل خليفة، رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار بقاعة شنقيط وهى القاعة الرئيسية للمعرض.
سمعت كثيرا عن السيدة التى احتضنت الثقافة والتراث فى البحرين وفى هذه الندوة استمعت إليها لأول مرة وهى تتحدث بكل حماس ولُطف عما قدمته وأنجزته فى البحرين، كشفت الشيخة مى فى هذه الندوة المصحوبة بفيلم وثائقى عن تأسيسها لمركز الثقافة والبحوث بالبحرين، والذى انطلقت منه لتقوم بأعمال ترميمية لبيوت تراثية عتيقة وتحويلها لبيوت وأماكن للفنون الجميلة، كما أسست مهرجان ربيع الثقافة وتاء الشباب، بالإضافة إلى تشييد متحف قلعة البحرين، كما خلدت فى كتيبات ذكرى شخصيات خاصة وعامة مثل الأديب الجزائرى محمد أكنونو، الأستاذة فاطمة المرنيسى، والشاعر الفلسطينى محمود درويش.
4- محمد لقاح شاعر باق فى ذاكرة المغرب:
كما نظم المعرض أيضا فى لافتة رقيقة بقاعة سجلماسة، ضمن برنامج أطلق عليه اسم (أحياء فى الذاكرة) أمسية لإحياء ذكرى الشاعر محمد لقاح بمشاركة نخبة من الأساتذة والباحثين.
فقد توفى اللقاح فى ٢٠١٩ بعد صراع مرير مع المرض عن عمر يناهز الـ٧٥ عاما، مخلفا إرثا كبيرا من الدواوين والقصائد، ومن بين أعماله الشعرية الديوان المتميز (سيدة القمة).
الحقيقة أن الشعر فى المغرب هو لغة البشر ولسان حالهم، فكلما قابلت روائيا أو باحثا ينتهى فى تعريفه نفسه بكلمة (والشاعر) فلان الفلانى، وكأن الشعر قدر كُتب على جبين أبناء الوطن.
الكل كتب الشعر أو حاول كتابته، واعتقادى أن اللغة الشاعرية والجمال يسكن القلوب بسبب سحر المكان وحضارته العريقة، فالجبال والزهور والتراث يُلقوا بظلالهم الشعرية على كل شىء حتى النفوس.
5- فاطمة الزهراء وتحدى القراءة:
احتفى المعرض أيضا بالطالبة فاطمة الزهراء أخيار بطلة تحدى القراءة الحاصلة على المرتبة الأولى فى الدور النهائى لتحدى القراءة العربى، عمرها ١٧ عاما، حظيت فاطمة منذ طفولتها بحكايات تروى لها على لسان الأم والأب حتى تشكل وعيها المبكر.
باتت شغوفة بالقراءة والاطلاع، حتى أصبحت القراءة جزءا من روتينها اليومى، تقرأ فى الفلسفة لزرادشت والتاريخ وإدوارد سعيد حتى ستيفن هوكينغ.
ثم جاء صراعها مع مرض السرطان الذى جسدته فى كتاب بقلمها عنوانه (فتاة الغرفة ٥٦) والمسار الذى قطعته للتغلب على المرض بالقراءة والنجاح..تقرأ فاطمة إلى جوار العربية باللغة الإنجليزية والفرنسية.
فاطمة بحق هى نموذج مشرف للشباب العربى الذى ربما افتقد بعضه الهوية العربية الحقيقية وربما نسى بعضه لغة الضاد فى خضم الحرب الاحتلالية للغات الأجنبية، إلا أن هناك بعض الشباب الذى تمثله فاطمة والذى دون شك مازال قادرا على احتضان اللغة والاحتفاظ بالهوية، وهم من يجب أن يصبحوا قدوة حقيقية لشبابنا العربى، أرى الاحتفاء بها فى أروقة معرض الكتاب هو اختيار جيد وموفق.
6- مبادرة «قرأ توصل»:
فى سابقة منفردة، نقل السيد وزير الثقافة والشباب والرياضة المغربى الحسن عبيابة فعاليات الدورة الـ26 لمعرض الكتاب إلى شوارع الدار البيضاء من خلال مبادرة (قرأ توصل) التى تهدف إلى التشجيع على القراءة وتعظيم الكتاب..
محاولة لربط القراءة بالوقت الذى يقضيه الناس فى وسائل المواصلات وهو فى الأغلب وقت ضائع دون استفادة..
هذه المبادرة تعيد علاقة القارئ بالكتاب من خلال الشعار الذى اختارته الحملة وهو (الكتاب خير أنيس لرحلتكم)، من خلال توفير مكتبات تضم مؤلفات متنوعة فى شتى المجالات، توضع رهن إشارة الركاب بشكل مجانى أثناء فترة المعرض على مستوى 40 محطة، من أجل التشجيع على الإقبال على القراءة، وجعلها عادة يومية، عادة للأجيال الصاعدة أيضا.
ساهمت دور النشر فى هذه المبادرة بنسبة 25% وساهمت الوزارة بما تبقى.
الحقيقة أن هذه المبادرة من وجهة نظرى هى مبادرة إيجابية ومهمة تدعو لإحياء القراءة التى أصبحت من الأشياء التى ربما توارت بسبب اقتحام السوشيال ميديا لعقول الشباب ووقتهم، ظاهرة القراءة فى وسائل المواصلات هى ظاهرة منتشرة فى الغرب، وتقنينها فى بلادنا العربية مبادرة تستحق الإشادة، ليتنا فى مصر نفعل نفس الشىء، ونتبنى ذات المشروع وكأنه نبتة تستحق أن نغرسها حتى نجنى ثمارها فى يوم ما.
7- صناعة الكتاب:
ركز المعرض أيضا على صناعة الكتاب وهى دون شك صناعة للعقول، صناعة تساهم بشكل جدى فى الارتقاء بالبشر والمجتمعات.
هناك أزمات عديدة تواجه النشر، بدءا بزيادة أسعار الورق والأحبار وبالتالى المغالاة فى سعر الكتاب عقب صدوره، كما أن هناك أزمة الكتاب المزور الذى يباع على الأرصفة، لا والأدهى أننى رأيت بعينى على الأرصفة فى الدار البيضاء والرباط الكتب المزورة تحتل أماكن مميزة وتتداول بشكل أكبر من الكتاب الأصلى، هذه الأزمة من الممكن بحسب قانون حماية حقوق الملكية الفكرية فى الدول الكُبرى أن تتسبب فى أزمات حقيقية بين الدول التى يتم تزوير عناوينها.
كما أرى أن إحياء القراءة عن طريق الصالونات الثقافية والندوات والتفاعل الإيجابى مع القراء الموجودة بالمغرب، محاولة جادة حتى لا يتوارى دور الثقافة وينتهى مع الزمن.
الثقافة هى العنوان الحقيقى للارتقاء والتقدم، وهذه ليست مجرد شعارات فارغة، بل هى حقيقة يجب أن يدركها المسئولون عن المشهد الثقافى فى الدول العربية جمعاء.
فى النهاية لا يسعنى إلا أن أقول إننى سعدت وتشرفت بوجودى فى المملكة المغربية التى تحتل مكانا خاصا بقلبى، والتى رأيت فيها من الحفاوة ونظافة الشوارع والفن والمناظر الطبيعية الخلابة ما يجعلنى أحلق فى فضاء من الطاقة الإيجابية حتى ألقاها من جديد.