بعد الكساد: في كازاخستان كيف استرد الإقتصاد عافيته ؟
بعد أن أصاب الكساد العالمي كازاخستان في عامي 2008 و 2009 بشكل بالغ وفي وقت مبكر، فقد أصيبت بنوكها الممتده بالشلل ولم تستطع الصمود إلا من خلال خطط الدعم والإنقاذ الحكومية، كذلك عانت صناعة المقاولات والانشاءات ذات الطموحات الوثابة من التدهور.
وتمثل ذلك في العدد الكبير من البنايات والعمارات السكنية التي لم يكتمل بناؤها او تشطيبها وأيضا معادات البناء التي علاها الصدأ في شتي أرجاء استانا والماطي، كذلك ارتفعت معدلات البطالة إلي أعلى مستوياتها وتراجعت الثقه تراجعا شديدا . صحيح ان الأمور لم تصل علي أرض الواقع إلى تكرار نفس أزمات فترة ما بعد الاستقلال مثل العودة إلى طوابير الخبز ووجبات الحساء المجانية، ولكن حدث تراجع شديد في نمو إجمالي الناتج المحلي حيث وصل إلى 1.2% وظل في التراجع حتي منتصف عام 2009.
ومع انخفاض أسعار النفط أصبحت البلاد علي شفا حفرة من الانهيار الاقتصادي. ولكن في الوقت الذي تنبأ فيه المتشائمون بأن البلاد تسير الي أسوء عصورها تحولت دفة الأمور في كازاخستان إلى النقيض تماما وتحديدا إلى ازهي عصورها فقد تعافت البلاد وتعافي اقتصادها بسرعه فاقت جميع الاقتصاديات الغربيه ومعظم الاقتصاديات الآسيوية
كما ظهر بحلول منتصف عام 2011 مؤشرات تدل علي عودة معدل النمو السنوي لاجمالى الناتج المحلي إلى 7% وتراجع معدل البطاله إلي أقل من 5% وتجاوز الفائض في الميزان التجاري ثلاثين مليار دولار بينما بلغ الاحتياطي النقدي 68 مليار دولار .
ويبقى السؤال، كيف حدث هذا التحول الكبير ؟
قال غريغوري مارتشينكو، محافظ البنك المركزي الذي قام بدور أساسي في عملية التعافي والإنقاذ: "بالفعل ساهم الحظ الطيب، المتمثل في عودة أسعار النفط وغيره من الموارد الوطنية إلى الارتفاع إلي مستويات عالية في فترة قصيرة، في استرداد الاقتصاد لعافيته"،
واضاف في الوقت نفسه يمكن القول بأننا وضعنا أيدينا علي المشكلة في وقت مبكر، لذا استخدمنا الصندوق الوطني بقدر من الجرأة واتخذنا العديد من الإجراءات والخطوات الإصلاحية مثل. خفض قيمة العملة وخفض الإنفاق.
ورغم دقة هذا الوصف المختصر لأبعاد الأزمة، فإنه يغفل إلي حد كبير الإرادة السياسية التي كانت مطلوبة حينذاك لاستكمال تنفيذ تلك الإستراتيجية. فلقد تعرض الأشخاص المسئولون عن تلك السياسه لانتقادات شديدة من الرأي العام، فحسبما يتذكر مارتشينكو : "كان لزاما علي ان اطلب من والداي المسنين ان يتوقفا عن قراءة الصحف لبضعة أشهر".
كما واجه رئيس الوزراء كريم ماسيموف دعوات كثيرة تطالب باستقالته، حتى ان الرئيس نزاربايف الذي لم تشبه شائبة والذي عادت من يتمكن من تجاوز معارك الجدل السياسي حيث أن الدستور يمنحه حصانة ضد أي هجوم علي شخصه بوصفه رئيسا للدولة _ تعرض هو نفسه لانتقادات عنيفة عندما بدأت البنوك تهتز وتتخبط وتم خفض الميزانيات، ولكن الدواء المر اتي ثماره في النهاية .
موضحا أن لتخفيف الألم الناتج عن الدواء المر اضطرت الحكومة الي الإفراط في الاستدانة واستغلال موارد صندوق الثروة الوطنية، ويعلق مارتشينكو على هذا الموقف بقوله: "انفقنا تسعة عشر مليار دولار للتغلب على الأزمة وتجاوز آثارها، حصلنا على عشرة مليارات منها من الصندوق الوطني، وكان المكون الأساسي في الإستراتيجية التي اتبعناها هو توفير السيولة النقدية".
كان الصندوق الوطني قد انشئ في عام 2000 نتيجة للدراسات التي قام بها نزار بايف للعديد من النماذج المختلفة في البلدان الأخرى وتحديدا النرويج، وكان الرأي السائد ما بين مستشاري الرئيس في تلك الفترة يعارض قيام كازاخستان بإنشاء مثل هذا الصندوق، وكانت جهة نظرهم ان العادات النفطية ينبغي استخدامها بشكل مباشر وفورى في قضية تنميه البلاد وتطويرها ولكن نزار بايف كان منبهرا بالأسلوب الذي يتبعه النرويجيون والذي يتميز بالحرص والحذر حيث انهم يخصصون جزءا من عائداتهم النفطيه وينحونه جانبا لوقت الأزمات، ولذا انتصرت رؤية الرئيس. ومرة أخري عندما وقعت ازمة الكساد العالمى في الفترة ما بين عامي 2008 و 2009 كان الصندوق الوطني بمثابة طوق النجاة الذي وفر للبلاد ما تحتاجه من أموال نقدية.
ومن الخطأ قول بأن كازاخستان قد خرجت من أزمة الكساد بفضل الأموال التى انفقتها لأنه تم إجراء خفض شديد في ميزانية الإدارات الحكوميه إلى جانب خفض قيمة العملة الوطنيه (التينغية ) بنسبة 25%، ولكن في الوقت ذاته زاد الإنفاق علي مشروعات البنية التحتية التى كان هدفها توفير ثلاثمائة وخمسين الف فرصة عمل جديده في مجالات مثل مشروعات الري الزراعي وأعمال الصرف وخزانات ومصادر المياه ومصانع تعليب اللحوم والمدارس والمستشفيات إلي جانب إنشاء طريق لعبور السيارات والقطارات من أوروبا الغربية إلي غرب الصين بطول ثلاثة آلاف ميل.
ونجحت هذه الإجراءات بفضل السياسه إلى جانب الإقتصاد، فالرئيس نزار بايف الذي سبق أن عبر بالبلاد الي بر الأمان في ازمتين سابقتين في فترة ما بين عامي 1991 و 1992 وعامي 1998 و 1999 تولي زمام القيادة معطيا دفعة كبيرة لوزرائه وللبلاد ككل، ففي خطاب له أذيع علي شاشات التلفزيون الوطني في السادس من مارس من عام 2009 كشف الرئيس للشعب عن قائمة مشروعات في مجال البنية التحتية وذكر مواطنيه بأن احتياطيات كازاخستان من الذهب والعملة الي جانب الأصول المودعة في الصندوق الوطني تزيد قيمتها الإجمالية مجتمعة عن واحد وخمسين مليار دولار، وفي نهاية الخطاب طالب الرئيس شعبه في صوت يفيض بالمشاعر بتكرار ما سبق وحققه من إنجازات في بناء الأمة:《لقد بدأنا في إنشاء عاصمة وطنية جديده، مدينة استانا، في احلك الظروف واصعبها واتممنا مشروعنا في وقت ظن فيه الجميع أننا لن نفلح في الانتهاء منه، وانا الان أدعوكم إلى أعاده احياء تلك التجربة الإيجابية بل والتفوق عليها .
والزمت المجموعة الوزارية التي ضمت ثلاث شخصيات بتلك التعليمات حرفيا في إطار مسئوليتها عن إدارة الاقتصاد، وضمت تلك المجموعه رئيس الوزراء كريم ماسيموف، الذي كان يشغل من قبل منصب وزير النقل وهو من أصحاب الكفاءة والأداء المتميز وتعود أصوله العرقيه الي الاويغور، كذلك وزير المالية بولات جاميشيف، وهو من التكنوقراط ويتميز بحبه الشديد للعمل لدرجة تصل إلي حد الإدمان، ويصفه خبراء الاقتصاد في الماطي بالتميز الشديد، وكان ثالث تلك الشخصيات محافظ البنك المركزي غريغورى مارتشينكو صاحب القدرات العقلية المبهرة. وقد ظل نزار بايف على ثقته بهم وإيمانه بقدراتهم حتى في ظل احلك الظروف وأكثرها اضطرابا.
وأشاد في بداية فترته الرئاسية الجديدة التي بدأت في أبريل 2011 بإعادة تعيينهم في مناصبهم، ولا يدل استمرار هم في مناصبهم إلا علي مدي كفاءتهم التي أثمرت بدورها عن نمو الثقة وتزايدها علي المستويين المحلي والدولي في إمكانية تعافي كازاخستان من الأزمات المالية، وتبقي كلمة في النهاية فرغم الإدارة الجيدة وفريق العمل المتميز لم يكن الاقتصاد ليسترد عافيته بهذه السرعة إلا بفضل الارتفاع الكبير في أسعار النفط وزيادة انتاجه.