عادل حمودة يكتب: إنها الحرب التى نتحدث عنها ولا نعرفها
جماعة صغيرة تهدد دولة قوية.. ميديا مضللة تؤدى إلى كارثة قومية.. واختفاء المسافات بين ما هو مدنى وما هو عسكري
الدول العظمى تحظى بشخصيات فكرية ومالية واستراتيجية تلعب دور «الدماغ» لتحقيق مصالح شعوبها
الدول العاقلة تحسب قوتها وتعتمد على الخبرات المحلية المتفاعلة
الزهد السياسي يمكن أن يؤدى إلى اختيار أهداف غير واقعية وصراعات غير مضمونة النتائج
ولد إميل خورى فى فلسطين.. درس فى لبنان.. هاجر إلى ألمانيا.. نشر أبحاثه فى فرنسا.. ترجمت فى الولايات المتحدة.. آخرها: صراعات الجيل الخامس.. الكتاب الذى نصحت اليونسكو حكام العالم بحفظه واستيعابه حفاظا على تماسك دولهم.. وإبعادها عن مخاطر حادة وخفية.. ربما لاتدركها إلا بعد فوات الأوان.
لكن.. قبل أن نشخص أعراض صراعات الجيل الخامس علينا أن نمهد لها بتشخيص أعراض صراعات الجيل الرابع التى نتحدث عنها كثيرا دون أن نكشف أسرارها.
أولى خصائص حروب الجيل الرابع: المواجهة بين دولة شرعية وتنظيمات إرهابية أو انفصالية غير شرعية لا يعترف بها العالم.
ما حدث فى سوريا وليبيا والعراق واليمن وأفغانسنان يؤكد هذه الحقيقة.
جماعات صغيرة.. أسلحتها بسيطة.. تغرى الشباب المتمرد الباحث عن مغامرة إليها.. تواجه جيوشًا نظامية قوية بأسلوب حرب العصابات.
والخاصية الثانية: أن الطرف الضعيف فى حروب الجيل الرابع لا يتورط فى معركة إلا إذا كان واثقا من أنه قادر على إنهاك الطرف القوى.. سيارة قديمة مفخخة تقتل وتصيب الكثير بلا تكلفة تقريبا.
وتوفر التكنولوجيا للطرف الضعيف ما توفره أحيانا للطرف القوى.. شبكة الإنترنت عليها كل ما تحتاجه المنظمات الإرهابية من معلومات عن تصنيع القنابل.. وتعطيل سيارات الإعاقة الإلكترونية.. واقتحام المواكب الرسمية.. مثلا.
والخاصية الثالثة: إن عمليات الجيل الرابع عابرة للحدود.. أهدافها ليست محصورة فى بلد واحد.. عمليات تنظيمات القاعدة وداعش والنصرة نفذت فى كثير من الدول على اختلاف نظمها.. من اليمن إلى الولايات المتحدة مثلا.. وقام بها شباب وفتيات من جنسيات مختلفة.. هجمات سبتمبر مثلا.
والخاصية الرابعة: الاستمرارية.. حرب دائرة تستمر سنوات دون توقف.. حرب مفتوحة.. شديدة الخطورة.. لائحة أهدافها تتمدد.. ورقعتها الجغرافية تتسع.. وتحالفاتها تتزايد.. واستغلال الكبار لها مستمر.. إن الغرب أطال أمد الحرب على الإرهاب متعمدا حتى يسيطر على كثير من الحكومات ويستنزف مواردها ويضعها فى دائرة تحالفاتها.
والخاصية الخامسة: تأرجح دور الإعلام بين التصديق والتضليل.. بين بث الأخبار الموثقة ونشر الشائعة المدمرة.. وبسبب تكنولوجيا الاتصالات نقلت الهواتف الذكية منافسة قوى الحق وقوى الباطل على عقول الجماهير.. ونجحت فى غالبية الأحوال فى السيطرة عليها وتوجيهها عن بعد نحو أهداف مغرضة لا تعرف عنها شيئا.. والأخطر أن الإعلام أصبح أداة لتقسيم الرأى العام بين مؤيدين ومعارضين وحسب براعة من يستخدمه يتحدد مصير الحكومات.
ولا تتوقف التكنولوجيا عند هذا الحد.. بل تصل بالدول القوية والصارمة إلى حد تسجيل المكالمات الهاتفية واختراق البريد الإلكترونى وانتهاك الخصوصية واستخدام البيانات الشخصية لملايين البشر فى توجيههم نحو أهداف سياسية معينة.. تحطيم سمعة هيلارى كلينتون.. انتخاب دونالد ترامب.. التصويت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى.. مثلا.
ولكن إذا كانت الدول الكبرى تتنصت وتسجل وتصور ما يحدث على الأرض بأقمار صناعية فلماذا لم تضرب أرتال داعش وهى تتحرك فى مناطق مكشوفة بين العراق وسوريا؟.. لابد أن لها مصلحة ما فى الإبقاء على التنظيمات الإرهابية.. ومنها ابتزاز الحكومات الإقليمية.. وتغيير الخرائط السياسية.. ومعاقبة النظم الشاردة.
والخاصية السادسة: تزايد تأثير شبكات التواصل الاجتماعى (سوشيال ميديا) وصعوبة السيطرة عليها وسهولة استخدامها فى المواجهات السياسية خاصة بعد تراجع تأثير الميديا التقليدية (الصحف والراديو والتليفزيون) بسبب التحكم فيها.
لقد فاجأت التنظيمات الإرهابية العالم بتمكنها من الوسائل الاستعراضية لبث المعلومات على شبكة الإنترنت.. وطالت أدواتها الهواتف الذكية.. ونجحت فى نقل الصورة التى ترغب فى توصيلها دون صعوبة وبموارد قليلة.
وتكرر المعارضة المدنية فى كثير من الدول اللعبة نفسها.
وأخطر ما فى تلك الوسيلة أنها قادرة على خداع مستخدميها بأشياء مزورة توضع عليها.. مثلا يمكن تسجيل شعارات سياسية على فيديوهات تصور تجمعات رياضية للإيحاء بأن هناك حركة تمرد فى الشارع.. ويمكن أن يرد الطرف الآخر بفيديوهات قديمة عن متآمرين يقبضون مالا لتحريض الناس على التظاهر.
والخاصية السابعة: إضعاف الدولة القومية الموحدة والسعى إلى تفتيتها واستغلال الخلافات العرقية والدينية للنيل منها ومن حكامها.
ويساهم فى ذلك ما تعانيه تلك الدول من تخلف وجهل وفساد وفقر وقهر وغيرها من المشاكل التى أزمنت منذ عصور بعيدة.
ولتجنب ذلك المصير يجب توعية الشعوب بتلك المخاطر بجانب الحفاظ على الجيوش الوطنية قوية مع وجود فرق متخصصة فى عمليات مواجهة الإرهاب ولكن الأهم اللجوء إلى الخبرات فى كافة مجالات الحياة كى تقدم حلولا مناسبة للمتاعب والمشاكل لتخفف من الضغوط التى تعانى منها الشعوب مما يوحد بينها وبين حكوماتها.
ولو كانت الدول النامية تعانى من إرهاب يريد تدميرها فإن الدول المتطورة تزايدت فيها سلطة الشركات ومنظمات المال والأعمال على حساب الحكومات.
ووصلت سطوة الشركات فى الولايات المتحدة إلى حد تنازل القوات المسلحة عن كثير من مهامها وتركها إلى مجموعة من المقاولين.. الحماية الشخصية لكبار القادة فى باكستان والعراق خارج الثكنات العسكرية تركت لشركة بلاك ووتر.. مثلا.
وهناك شركات أخرى توفر المعلومات.. والتموين.. والوقود.. وبناء المعسكرات.. ووضع برامج التدريب.. وتطوير الأسلحة.. ولكن.. ذلك كله تحت إشراف الجنرالات لضمان الكتمان والسرية.
وكل خاصية من تلك الخصائص تحتاج إلى خبراء متخصصين لشرحها وفهمها ووضع البرامج المناسبة للتعامل معها.
ولكننا فى الحقيقة نتحدث عن حروب الجيل الرابع دون أن نرصد خصائصها إلا فيما نتصور أنه يفيد ما نريد حسب مصلحتنا حتى ولو كان تصورنا خاطئًا أو من وحى الخيال أو لإقناع الناس بفكرة ما لهدف ما.
إن الأمر أخطر من ذلك بكثير.
والأشد خطورة أننا قبل أن نستوعب بدقة حروب الجيل الرابع ظهرت حروب الجيل الخامس.
إن الصواريخ التى أطلقت على شركة أرامكو السعودية عن بعد تسببت فى ارتباك سوق الطاقة وبورصات المال وشركات تطوير الأسلحة وتحقيقات الدول الكبرى والمنظمات الدولية.
تراجعت المواجهات المباشرة بين الجيوش وبدأت العاب الفيديو فى تحريك الصواريخ والطائرات المسيرة.
عمليات عن بعد.. أسلحتها متطورة.. تأثيراتها مباشرة.. تداعياتها مرعبة.. لا أحد يعرف مداها.
لو تخيلنا صاروخا أطلق على الكعبة ترى هل سيسكت المسلمون فى مختلف دول العالم وهم أنفسهم الذين لم يسكتوا على الصور والأفلام المسيئة للرسول؟.. ألا نتوقع حربا عالمية؟.
ولكن.. ما حدث أمام أعيننا دون أن نستوعب بعض نتائجه ليس المظهر الوحيد لحروب الجيل الخامس.. ما خفى كان أعظم.
إن الدول العظمى تحظى بشخصيات فكرية ومالية واستراتيجية تلعب دور الدماغ فى تحقيق الرفاهية لشعوبها وتنفذ قراراتها دون رحمة لا سيما لو كانت مصالحها خارج نطاقها الجغرافى لها ولحلفائها.
وخلقت تلك القسوة حالة من التمرد ضدها وضد الحكومات المتحالفة معها.. إن تنظيم القاعدة أساسه تمرد على الاحتلال السوفيتى فى أفغانستان.. لكنه.. سرعان ما دخل اللعبة الدولية ونقل تمرده إلى الدول العربية والإسلامية تحت شعارات دينية متشددة.. ومشت على درب القاعدة تنظيمات أخرى متعددة ومتنوعة.
وهنا تمرد من نوع آخر سعت إليه شعوب لتحقق أهدافا اجتماعية معينة.. إنه ليس تمردا من أجل التمرد.. وإنما تمرد لسبب يختفى باختفاء السبب.. ولكن.. خطورة النوع الأخير من التمرد سهولة ركوبه من مخربين وإرهابيين ومن قوى خارجية.
وأخطر ما فى خصائص حروب الجيل الخامس أن القرار السياسى لكثير من الحكومات الوطنية مرتبط بمصالح الدول الكبرى التى أصبحت مصالح شاملة تغطى غالبية دول العالم إن لم تكن كلها.. إن رفع أو خفض الفائدة على الدولار يؤثر على أسواق الدنيا كلها.. وزيادة سعر اليوان أو تخفيضه يؤثر على الإنتاج الصناعى المحلى وقدرته على المنافسة.
والمؤكد أن عولمة الصراع على العملات ليس إلا الوجه البارز للمنافسة العالمية على الموارد المختلفة مثل النفط والغاز والألياف البصرية والمنتجات الزراعية.. ويصعب على الدول المحلية أن تنفذ ما تشاء من مشروعات دون أخذ مصالح الدول الكبرى فى الحسبان.. بل إن الدول الكبرى ربما تعرف من المعلومات الدقيقة عن كثير من الدول أكثر مما تعرف تلك الدول عن نفسها.
وفى حروب الجيل الخامس تلاشى الفارق بين المدنى والعسكرى وسقط الحاجز بين التجارى والأمنى وأصبح الكل يصب فى مصلحة الكل.
لو نجحت دولة ما فى زيادة تصديرها من سلعة ما يقوم البرنامج المختص على الكمبيوتر بإرسال إشارة إنذار إلى فرق مختصة لتحدد ما إذا كانت الصفقة تهدد المصلحة الوطنية أم تصب فيها.
إن تصدير الأرز فى الدول التى تعتمد عليه فى غذائها يتجاوز حدود التجارة ويخضع لمناقشات مجلس الأمن القومى.. مثلا.
كذلك القمح.. والتكنولوجيا.. وقبلهما السلاح بالطبع.
ولو كانت الدول الكبرى قادرة على فرض عضلاتها على امتداد الكرة الأرضية كلها فإنها فى الوقت نفسه تكشف عن نقاط ضعفها.. ولكن.. على من يريد الإضرار بها أن يكون حكيما وإلا دفع ثمن تهوره غاليا.
دمرت اليابان بقنبلتى هيروشما ونجازاكى الذريتين بعد أن أصابت الأسطول الأمريكى فى بيرل هاربر.
والمؤسف أن أحد العناصر الجديدة فى خصوصيات حروب الجيل الخامس أن التمرد على الدول العظمى لا يفيد المتمرد.. إن الزهو السياسى يمكن أن يؤدى إلى اختيار أهداف غير واقعية وصراعات غير مضمونة النتائج.
إن الدول العاقلة هى التى تحسب قوتها.. وتحدد مصالحها.. وتتحسس خطواتها.. وتسعى جاهدة إلى الاعتماد على الخبرات المحلية المتفاعلة مع التطورات الخارجية.. ومنح إعلامها الوطنى فرصة التعبير عن نفسه بحرية مسئولة حتى يتفاعل معه الناس ويصدقونه ولايبحثون عن بديل عنه مضلل ومضر.
تغيرت الدنيا بما لا نتصور ولا نستوعب وحتى نجاريها يجب أن ننظر إلى الأمام لنرى الطريق الوحيد للنجاة.