عادل حمودة يكتب: انسف كمبيوترك الحديث وعد إلى موبايلك القديم
تحقيقات فى ميونخ وقضايا فى واشنطن ضد برنامج التجسس فاين فيشر
الكثير من المسئولين والسياسيين أبعدوا الأجهزة المتصلة بالإنترنت لكن النتيجة حتى الآن لصالح المجانين بالتجسس
حجم تجارة برامج التجسس الخاصة وصل مؤخرًا إلى 5 مليارات دولار سنويًا
المؤيدون قبل المعارضين على رأس قائمة الشخصيات المستهدفة فى كثير من حكومات العالم لا تثق فى وزرائها
بدت صحيفة زود دويتشيه الألمانية متأهبة.. متحفزة.. مشدودة الأعصاب.. مثل فهد فى غابة.. ما اكتشفت من فضيحة سياسية وإنسانية وحقوقية فرض عليها تلك الحالة غير المعتادة من الغضب.. ولم تمر سوى أسابيع قليلة حتى انتقلت عدوى الغضب إلى النيابة العامة فى ميونخ.
ثلاث شركات للتكنولوجيا الرقمية.. مقرها ميونخ.. تنتج وتصدر برنامج تجسس إلكترونى أطلق عليها فاين فيشر .. فيروس خبيث.. يبث عبر الإنترنت.. يتسلل إلى أجهزة الكمبيوتر (أو الموبايل) الشخصية عبر رسالة تصل إلى إيميل الشخص المستهدف.. ما أن يفتحها حتى ينجح الفيروس فى تدمير تحصيناته.. ليصبح كل ما يملك من معلومات وملفات ومحادثات واتصالات مباحا.. مكشوفا.. يسهل نقله إلى أجهزة أخرى.
ودون أن ينتبه الشخص المستهدف يجرى تشغيل الكاميرات والميكروفونات فى جهازه عن بعد لتتحول بين أصابعه إلى وسائل مراقبة.. ترصد كل ما يفعل ويقول.. ويمكن تسجيلها بالصوت والصورة لتستخدم فيما بعد ضده.
لم تقف زود دويتشيه وحدها فى الحملة الصحفية التى شنتها على الشركات الثلاث.. انضمت إليها ثلاث قنوات تليفزيونية (واحدة منها حكومية) وساندتها منظمات غير حكومية.. مثل مراسلون بلا حدود والمركز الأوروبى للحقوق الدستورية.
واعتمدت النيابة العامة فى تحقيقاتها على المعلومات التى نشرت وبثت وجمعتها فى 21 صفحة بها 8 معلومات تقنية تكشف الجريمة وتدين المتورطين فيها.
بدأت التحقيقات مع المسئولين التنفيذيين للشركات الثلاث يوم 5 يوليو الماضى ووجهت إليهم تهمة اختراق الخصوصية التى يعاقب عليها بالسجن مدة لا تقل عن ثلاث سنوات وغرامة قد تصل إلى 50 ألف يورو.
لكن كيف كشفت الجريمة؟.
فى عام 2018 اشترت الحكومة التركية البرنامج واستخدمته فى التجسس على المعارضين فى الحركة الاحتجاجية واسعة الانتشار المسماة: مسيرة من أجل العدالة التى أحرجت الحزب الحاكم (العدالة والتنمية).
تكونت تلك الحركة بمسيرة نظمها رئيس حزب الشعب المعارض كمال قلتيش أوغلو (68 سنة) احتجاجا على سجن النائب البرلمانى فى حزبه إينيس بربر أوغلو لمدة 25 سنة بتهمة الكشف عن أسرار الدولة إلى صحيفة جمهورييت.
حكم على النائب بسجن مؤبد بسبب إمداده الصحيفة بمقطع فيديو يصور أسلحة مرسلة من المخابرات التركية إلى سوريا وأوقفت وخضعت للتفتيش على الحدود فاتهم بالتجسس وإفشاء أسرار تهدد الأمن القومى.
احتجاجا على ما حدث له تقرر القيام بمسيرة تبدأ من قلب أنقرة وتنتهى أمام السجن الذى يقضى فيه النائب العقوبة (450 كيلومترا) فى صيف 2017 وانضم للمسيرة طوال الطريق مئات الألوف من المواطنين كما شارك مثلهم بالتصفيق فى الشرفات وبشعارات رفعت ضد الحكومة.
لم يردد المشاركون فى المسيرة سوى كلمة واحدة: العدالة .
ولكن المسيرة لم تكن مجرد حادث عابر وانتهى بل أصبحت تنظيما احتجاجيا دائما تشرف عليه هيئة سياسية من سياسيين وصحفيين معارضين من داخل وخارج حزب الشعب.
هنا تعاقدت الحكومة التركية مع إحدى الشركات الألمانية المتهمة على إنتاج برنامج خاص للتجسس سمى حصان طروادة لترسله إلى كمبيوترات أعضاء المجلس التنفيذى لهيئة المسيرة لتعرف خطتهم فى التحرك حتى تجهضها.
اعتبرت النيابة العامة فى ميونخ ما حدث انتهاكًا لقوانين التجارة الخارجية.. ولكن الأهم أنها فوجئت بأن حجم تجارة برامج التجسس الخاصة وصل مؤخرا إلى 5 مليارات دولار سنويا.. ومتوقع أن يتزايد سنويا حتى يصل إلى 25 مليار دولار عام 2025.
فى الوقت نفسه تفجرت فى الولايات المتحدة فضيحة أخرى مشابهة فرضت نفسها على القضاء هناك للمرة الأولى.
رفع مواطن إثيوبى يسمى كيدان يحمل الجنسية الأمريكية دعوى قضائية اتهم فيها المخابرات الإثيوبية باستخدم برنامج التجسس فاين سباى اخترقت به جهاز الكمبيوتر الذى يستخدمه بالتواطؤ مع المخابرات الأمريكية وطالب بخمسة ملايين دولار تعويضا عن انتهاك خصوصيته فى سابقة لم تحدث من قبل.
وبرنامج فاين سباى برنامج قادر على تجاوز 40 نوعا من برامج مكافحة الفيروسات وتنتجه واحدة من الشركات الألمانية المتهمة.
كان كيدان معارضا لنظام الحكم فى أديس أبابا منذ عشرين سنة وما أن هبط واشنطن حتى حصل على حق اللجوء السياسى وفرض عليه القانون اعتزال السياسة ورغم ذلك لم ينج من التجسس عليه منذ أكتوبر 2012.
حسب منظمة فريدم هاوس: دأبت أجهزة الأمن الإثيوبية على مراقبة البريد الإلكترونى للمنشقين من مواطنيها الذين يعيشون فى دول العالم المختلفة.
ووثقت المنظمة حالة المنشق الإثيوبى تاديس كيرسمو الذى يعيش فى لندن مما شجع منظمة أخرى متخصصة فى الدفاع عن الخصوصية (مؤسسة برايفسى إنترناشيونال البريطانية) على رفع دعوى قضائية نيابة عنه ضد الحكومة الإثيوبية وطالبت بتعويض يصل إلى عشرة ملايين دولار.
ويقدر عدد القضايا المشابهة بنحو 400 قضية فى 18 دولة وتقدر التعويضات المطلوبة بنحو مليار دولار ولو صدرت فيها أحكام فإن كثيرًا من حكومات الدول الديمقراطية المتهمة يمكن أن تتراجع عن تجسسها على كمبيوترات مواطنيها ومعارضيها خشية إسقاطها.
ولكن الأهم أن الاتحاد الأوروبى اتخذ قرارا بالحد من تصدير شركاته لتلك البرامج خشية إساءة استخدامها دون موافقة مسبقة من القضاء وإن كانت الحكومات غالبا ما تقنع السلطات القضائية بمنحها الإذن المطلوب بحجة حماية الأمن القومى فى زمن غيرت فيه التكنولوجيا من وسائل اختراقه وتخريبه.
وحسب منظمات متعددة فإن السياسيين المؤيدين قبل المعارضين على رأس قائمة الشخصيات المستهدفة فكثير من حكومات العالم لا تثق فى وزرائها وتخشى قيام أجهزة خارجية بتجنيدهم.
ويأتى بعدهم الصحفيون ونشطاء الجمعيات الحقوقية.
وفى المرتبة الثالثة يقف رجال الأعمال لضمان سلامة صفقاتهم وأرباحهم وضرائبهم.
ولكن الأشد خطورة أن بعض الشباب الموهوب فى إضافة برامج جديدة للكمبيوتر يمكنهم التوصل بسهولة إلى برامج التجسس ووضعها على شبكات الإنترنت لاستخدامها الناس ضد بعضهم البعض.
ولو كانت تلك البرامج التى يتوصل إليها الهواة ليست بالخطورة التى تنتجها الشركات المحترفة فإن الزمن كفيل بمنافستها لتصبح فى متناول الجميع بسهولة وربما دون مقابل مما يجعل العالم شبكات هائلة من الجواسيس.
ولن يكون لنا ساعتها الدخول إلى النار بأنفسنا أو تحطيم أجهزة الكمبيوتر والتصرف فى الحياة بدونها.
وكثير من المسئولين والسياسيين أبعدوا الأجهزة المتصلة بالإنترنت واكتفوا بموبايل متخلف يصعب التنصت عليه.
ولكن الأهم أن كثيرا من المطورين لأجهزة التجسس اكتشفوا ضعف حجة استخدامها حماية للأمن القومى مثل إدوارد جوزيف سنودن التقنى الموهوب الذى خدم فى الأجهزة الأمريكية وهرب إلى هونج كونج ليفضحها بعد أن أثبت أنها تتنصت على مكالمات وإيميلات الشعب الأمريكى وبعد طول مطاردة استقر فى روسيا.
وفى الكتاب الذى نشر عنه والفيلم الذى صور ما فعل يكشف سنودن عن حقيقة لافتة للنظر.. إن الموظفين الذين يقومون بالتجسس كثيرا ما يصابون بأمراض نفسية تنتهى بهم إلى التقاعد المبكر.. من كثرة ما يطلعون على أسرار شخصية أصيبوا بالشك فى زوجاتهم وصديقاتهم.. وبعضهم فضل الحياة بعيدا عن النساء.. كما امتد الشك الذى يسيطر عليهم إلى كل البشر من حوله.. وأنهى نسبة لا يستهان بها منهم حياته منتحرا.
ولكن الأهم أن سنودن دعا خبراء التكنولوجيا إلى العمل على برامج مضادة للتجسس تكشف على الأقل تلوث أو نظافة أجهزة الكمبيوتر بفيروسات فاين فيشر.. واستجاب الباحث الألمانى كلوديو جوارنيرى إلى الدعوة وتوصل مع آخرين فى سيتيزين لاب (جامعة تورنتو) إلى تطبيق وضعه على الإنترنت.. يسمى ديتكت .. يمكنه تطهير أجهزة الكمبيوتر من الفيروس الخبيث.. ولكنه ينصحك بأن تنسف الكمبيوتر الخاص بك حتى تكون فى مأمن تام.. ويفضل أن تترك موبايلك الذكى وتعود إلى الموبايل القديم.
على أن الصراع لن يتوقف بين مخترقى الخصوصية وحماتها وإن كانت النتيجة حتى الآن لصالح المجانين بالتجسس.