عادل حمودة يكتب: وزير الطيران يكشف: كيف أدار أزمة بريتش إير وايز؟
كيف أوقفت الخطوط البريطانية رحلاتها إلى القاهرة بدعوى الخوف على حياة ركابها وفى الوقت نفسه حجزت لهم أماكن على شركات أخرى للسفر إلى القاهرة؟
اعتذار السفير البريطانى مبكرا أجهز على سوء استغلال الأزمة وإن لم يكشف سرها
مدير أمن الشركة: مطار شرم الشيخ آمن وقرار عودة السياحة فى يد رئيسة الحكومة ولكنها مشغولة بخروج بلادها من الاتحاد الأوروبى
لا نحتاج إلى جهد كبير لنكشف آثار الشيخوخة المهنية التى أصابت الخطوط الجوية البريطانية وأفقدتها البصر والبصيرة وعصفت بذاكرتها وضاعفت من ثرثرتها وفرضت عليها مراهقة متأخرة.
وليس هناك وصف ينطبق على تصرفاتها غير المتوقعة أكثر من وصف الخرف.
وعندما يخرف إنسان يفعل ما لا يخطر على البال.. يقطع أذنه.. يشنق زوجته.. يحرق بيته.. وربما يأكل أولاده.
ولكن الشركات الكبرى عندما تخرف فإنها ترتكب من الحماقات ما هو ممكن وما هو مستحيل.. تحطم بها تقاليدها العريقة.. وتخرب علاقاتها الدولية المستقرة.. وتشوه صورتها التى تعبت فى فرضها على عيون الآخرين.. وتسقط من حساباتها مصالحها ومكاسبها التى حافظت عليها على مر السنين وهى تتصور أنها تدافع عنها.
كان ركاب الطائرة البريطانية (بريتش إير وايز) يجلسون بالقرب من بوابة السفر إلى القاهرة فى الصالة الخامسة فى مطار هيثرو ينتظرون إشارة الصعود للطائرة تمهيدا لإقلاعها فى الساعة الخامسة مساء ولكنهم فوجئوا بما لم يخطر على بال أكثرهم خيالا.
إن الرحلة (رقم 155) لم تلغ فقط وإنما السفر إلى القاهرة ألغى أيضا لمدة أسبوع واحد من الجمعة إلى الجمعة.
بررت الشركة قرارها المباغت بأنه إجراء احترازى اتخذته خوفا على حياة ركابها بسبب مخاوف أمنية لم تذكرها ولكن المفاجأة غير المتوقعة أن الشركة راحت تدبر أماكن لسفر الركاب أنفسهم على شركات طيران أخرى وأولها مصر للطيران وإلى القاهرة ذاتها.
أليس ذلك من علامات الخرف؟
فلو كانت القاهرة مدينة خطرة كما أوحى بيان الشركة فلم سهلت سفر ركابها إليها ولكن على شركات أخرى فهل الخطر كان مقصورًا على هياكل طائرات الشركة البريطانية دون ركابها؟ أم إن الشركة تورطت فى معلومات مضللة اتخذت على أساسها قرارها ولم تشأ بما تتمتع به من غطرسة بسبب الشيخوخة أن تعود إلى الصواب وتلغى قرارها بل وتعتذر عنه.
المفاجأة الثانية: أن شركة الطيران الألمانية (لوفتهانزا) اتخذت بعد ساعات قليلة القرار نفسه ولكنها حين أدركت خطأها لم تنفذه وانتظمت رحلاتها إلى القاهرة ومنها فى جدولها المعتاد.
والمفاجأة الثالثة: أن وزارة الطيران عرفت بقرار الخطوط البريطانية من المواقع الإخبارية فلم يبلغها أحد رسميا بما حدث فكان أن اتصل أحد المسئولين الكبار فى الوزارة بالسفارة البريطانية بحثا عن تفسير أو تبرير ولكن السفارة أبلغت الوزارة أن القرار لم يصدر عن الحكومة البريطانية (لا وزارة الخارجية ولا وزارة النقل) ومن ثم فليس هناك ما يمنع رسميا للسفر إلى القاهرة بدليل أن سلطات الطيران البريطانية سمحت لمصر للطيران برحلة إضافية من لندن إلى القاهرة تعويضا عن غياب الخطوط البريطانية ولمنع تكدس الركاب فى موسم الصيف الذى يكثر فيه الطلب على رحلات لندن القاهرة والعكس.
ولعل صدور القرار من الشركة منفردة دون تدخل من حكومتها أبعد الأزمة عن وزارة الخارجية وألقى بها فى حجر وزارة الطيران وإن سعت الخارجية عبر سفارتنا فى لندن للكشف عن ملابسات القرار وأغلب الظن أنها لم تتوصل إلى شيء.
فى منتصف نهار اليوم التالى (السبت) استقبل وزير الطيران يونس المصرى فى مكتبه وبناء على طلبه السفير البريطانى جيفرى آدامز لبحث ما جرى وبدا واضحا أن السفير لم يكن لديه تفسير مقنع لما حدث أو لم تكن له رغبة فى توسيع رقعة ما حدث ولم يشأ الوزير فى الضغط عليه.
وحسب ما سمعت من الوزير تليفونيا: فإنه أبدى استياءه لما حدث.. فأن تتخذ شركة طيران قرارا بتعليق رحلاتها منفردة دون مراعاة مصالح دولتها ودون إبلاغ مسبق للدولة المتخذ بشأنها القرار فذلك تصرف تنقصه الحكمة والكياسة.. وكان أن بادر السفير بالاعتذار عن عدم إبلاغ السلطات المصرية قبل إعلان القرار حسب ما تقتضيه أصول العلاقات الدولية.. مؤكدا أن لا مساندة رسمية للقرار.
ولكن اعتذار السفير كما جاء فى بيان وزارة الطيران اللاحق على لقاء الوزير يقتصر على عدم إبلاغه بقرار الشركة وليس على تصرفها مما ضاعف من غموض القرار.
وحضر اللقاء المسئول الأمنى عن الشركة فى القاهرة الذى أكد وجهة نظر السفير بأن تصرف الشركة لا يتعلق بالتدابير الأمنية للمطارات المصرية التى تتمتع بكافة إجراءات السلامة للركاب والبضائع والطائرات حسب ما تفرضه القواعد السائدة فى العالم وبشهادة لجان المرور الدولية ومنها لجان مرور بريطانية.
نجح الوزير بسرعة وجرأة وخبرة فى إدارة الأزمة الفريدة من نوعها وخلال ساعات قليلة قاطعا الطريق على الجهات المعادية لمصر التى استغلت ما حدث وراحت تطلق العنان لسيناريوهات خرافية ثبت أنها منافية للحقيقة تماما.
هناك من برر القرار بأعمال شغب قام بها مشجعو الجزائر (أربعة آلاف شخص تقريبا) على كاونترات الحقائب فى صالات السفر الذين غادروا القاهرة على متن 24 رحلة بعد فوز بلادهم بكأس الأمم الإفريقية مما أدى إلى تأخر كثير من الرحلات الأخرى ولكن مثل هذا التفسير لو صح لا يبرر قرار الخطوط البريطانية فطائراتها تهبط فى الصالة الثانية وتتولى بنفسها الإجراءات الأمنية الأخيرة قبل الصعود للطائرة بعيدا عن صالة سفر الخطوط الجزائرية.
وهناك من ادعى وجود فيروسات شديدة الخطورة تركها بعض مشجعى الدورة الإفريقية فى القاهرة ولكن لم يصدر من وزارة الصحة المصرية أو منظمة الصحة العالمية ما يشير إلى ذلك كما أن كثيرًا من الطائرات القادمة من إفريقيا إلى أوروبا يجرى تبخيرها قبل الهبوط.
وأغلب الظن أن الخطوط البريطانية تعرضت إلى خديعة دبرتها جهة معادية لمصر فيما فعلت فى وقت تجرى فيه التعاقدات مع شركات السياحة الخارجية على موسم الشتاء القادم فما أن أعلنت بريتش إير وايز قرارها حتى خرجت الميديا البريطانية الشامتة والمحرضة (وعلى رأسها صحيفة الجارديان التى تمتلك قطر نصيبا منها) لتنفخ فى الرماد لعل النار لا تزال تحته.
وفات كل من سعى للعب فى الخفاء والضرب تحت الحزام أن الإرهاب جريمة عالمية متعددة الجنسيات طالت لندن كما طالت برلين وعصرت القلوب فى واشنطن كما فعلت فى كراتشى وخربت دور عبادة فى مصر بنفس الغل فى نيودلهى.
وبنفس قدرة الوزير على المواجهة أبدى استعداده لمد جسور التسامح مع الخطوط البريطانية إذا ما عادت نادمة على ما فعلت فإن أصرت على تصرفاتها فإن مصر لن تسعى وراءها وستكون قادرة على نقل ركابها من القاهرة إلى لندن والعكس.
وفى رؤية الوزير فإن علينا أن نحافظ على مصالحنا مع بريطانيا ولكن دون أن ننسى كرامتنا.
والحقيقة أن اعتذار السفير زاد من شأنه فى مصر فهو بكلمات قليلة أجهز على أزمة يمكن أن تكبر وتسخن وتتصاعد ويمكن لخصوم البلدين إلقاء شباكهم فى المياه العكرة.
وآدامز سبق أن خدم فى مصر عام 2001 قبل أن يعود إليها سفيرا بعد نحو 18 عاما قضاها مديرا لشئون الشرق الأوسط فى الخارجية البريطانية وسكرتيرا أول لوزير شئون الكومنولث وقنصلا عاما فى القدس وسفيرا فى طهران.
والمؤكد أنه سعى لعلاج أخطاء سلفه السفير جون كاسن الذى استغل إجادته للغة العربية فى كتابة تعليقات خفيفة الظل على وسائل التواصل الاجتماعى (سوشيال ميديا) وزيارة الأماكن الأثرية فى القاهرة ونشر صوره وهو يتفقدها دون أن يعالج القضية الأهم: عودة السياحة البريطانية بعد أن توقفت بقرار من رئيس الحكومة السابق ديفيد كاميرون فى بداية نوفمبر 2015.
بل إن كاسن كان يضغط على أعضاء فى البرلمان البريطانى كى لا يزوروا شرم الشيخ ويطمئنوا على حالة الأمن فى مطارها.
ومنذ عامين التقيت بالوفد البرلمانى الأخير خلال زيارته إلى شرم الشيخ وقد سمعوا من محافظ جنوب سيناء اللواء خالد فودة ما انتهت إليه زيارات البعثات الأمنية (البريطانية والروسية والإيطالية) لمطار المدينة وكتابة تقارير إيجابية تؤكد العمل بكافة إجراءات السلامة الدولية.
بل إن مدير أمن شركة الخطوط الجوية البريطانية نفسه زار شرم الشيخ أكثر من مرة ورفع تقريره إلى رئيسة الحكومة فى بلاده تيريزا ماى طالبا منها اتخاذ قرار عودة رحلات الشارتر إلى المدينة وإن برر تأخرها فى إصدار القرار باهتمامها بالبريكيست بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى.
ولعدم كفاءة كاسن فى تنفيذ مهمته السياسية والدبلوماسية فى مصر لم يجد مكانا أو ظيفة أخرى فى انتظاره.
وضاعف من قيمة آدامز ما فعل السفير البريطانى فى واشنطن كيم داروك.
ذات يوم كانت بريطانيا إمبراطورية عظمى لا تغيب عنها الشمس من كثرة المستعمرات التى احتلتها على خريطة الدنيا باتجاهاتها الأربعة ولكن رغم نهب خيرات المستعمرات حتى آخر نفس فإنها تركت لكثير من شعوبها تقاليد راقية فى أصول الطعام وآداب المائدة (بما فى ذلك شاى الساعة الخامسة) واختيار الثوب المناسب فى التوقيت المناسب والمكان المناسب والتأنى فى استعمال الكلمات المهذبة فى الحديث مهما كانت سفالة الخصم فيما يعرف بالآداب الإنجليزى أو البرود الإنجليزى.
ولكن داروك ضرب عرض الحائط بعلاقة الزواج الكاثوليكى بين بلاده والولايات المتحدة وتجاوز حدوده الدبلوماسية ووصف الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بأنه غير كفء وغير مؤهل ولن تنتهى فترة رئاسته إلا بفضيحة تسبب عارا لإدارته التى يتشاجر رجالها مثل أصحاب السوابق بواسطة السكاكين.
وبتسريب رسائل البريد الإلكترونى للسفير انفجرت أزمة سياسية بين البيت الأبيض وحكومة تيريزا ماى أجبرت السفير على تقديم استقالته قبل أن يكمل مدته التى تنتهى فى آخر العام الجارى ولكن الأهم أنه نال من سياط لسان ترامب ما أوجعه: لسنا من المعجبين بهذا الرجل (فهو) لم يخدم المملكة المتحدة بشكل جيد وأضاف الرئيس الأمريكى: يمكننى أن أقول أشياء عنه ولكننى لا أريد ذلك.
ولم يجد وزير الخارجية البريطانية وليام فوكس مفرا من القول: إن هذه التسريبات قد تضر العلاقة مع الولايات المتحدة واصفا إياها بأنها غير أخلاقية.
لكثير مما تسببه الدبلوماسية البريطانية من متاعب لبلادها يجب الاعتراف بأن السفير آدامز هو بالفعل سفير فوق العادة من طراز أصبح نادرا.