من ورَاء سِتارة مغلقة، تفصل بين غرفة الجلوس وحجْر المنزل، كانت تتابع عفاف، والدها وأصدقائه يشاهدون مباريات كرة القدم، وعندما تسمع لجّة أَصواتَهم، مع كل هدف يحققه فريقهما المفضل، كانت تهلَّل معهم، حتى ولعت باللعبة في العاشرة من عمرها، وظل والدها يصطحبها معه إلى المقهى في كل مباراة، واعتادت على ذلك بعد رحيله، ولكن مع حفيدتها "الكرة في دمي.. ومفيش حاجة تمنعني أشجعها.. صح الناس كانت بتستغرب لما بتشوفني زمان في الماتشات الكبيرة على القهوة.. لكن دلوقتي الوضع اختلف والمرأة أصبح كرسيها محجوز زي الراجل".
وبرغم من غِبط حال صاحبة الـ(65 عامًا)، إلا أنها ظلت تتردد على المقهى القديمة الكائنة بإحدى مناطق فيصل بمحافظة الجيزة الممتدة لسكنها بحي الهرم، لاسيما وأن ما برِح تفاصيل أول تنظيم لكأس الأمم الأفريقية في عام 1974، محفورًا في ذهنها، فكان عمرها حينها (11 عامًا)، وظل والدها يشرح لها معنى أن تستضيف مصر حدث رياضي ضخم بهذا الحجم، لذا حرصت على أن تتواجد في الصفوف الأولى، محاولة سرد قصتها وتاريخ البطولة لحفيدتها التي لا تستوعب سوى سعادتها بـ "الصافرة" التي رُسم عليها علم مصر "بكرة تفهم.. المهم ننشأ البذرة"، تقولها ربة المنزل ممازحة حفيدتها، لتخجل الفتاة مغمغمة بكلمات غير مفهوم منها إلا كلمة "مصر".
تلتقطها إحدى البائعات القابعة بمُحاذاة المقهى، محاولة عزفها على صافرة مشابهة، لتتعالى أصوات الجميع باسم مصر ويضجَّ التَّصفيقُ، كأنهم متواجدين داخل ستاد القاهرة الدولي يؤازِّرون المنتخب الوطني "فرحتنا بالبطولة زي العيد بالضبط"، يقاطعها صوت إحدى الفتيات، بعد فزَّعها خوفًا من تسديد فريق أوغندا هدفًا في شباك مصر في الجولة الثالثة للمجموعة الأولى بدور المجموعات لكأس الأمم الأفريقية 2019 "قلوبنا وقعت.. الحمدلله جات سليمة".
على بعد خطوات يجلسن الصديقتان وفاء وسمية على طاولة بالشارع المكتاظ بمناضد وشاشات عرض كبيرة، لنقل المباراة بشكل أوضح- فالمقاهي لا يفصل بينهم سوى أمتار بسيطة وجميعهم يعملون بألفة وتعاون-، "حجزنا المكان من الساعة 6 المغرب.. وطبعا إجازة اليوم ساعدتنا كتير نيجي بدري بعكس يوم الاربعاء.. جينا متأخر ومعرفناش نتابع الماتش كويس"، تقولها صاحبة الـ(45 عامًا)، والتي تعمل بإحدى مصانع الملابس الخاصة، وصوتها يحدوه الأملُ بفوز المنتخب الوطني، لاسيما وأنها أول مرة تشارك في حدث رياضي، بعكس حرصها على المشاركة السياسية فكانت في أولى طوابير الانتخابات البرلمانية والرئاسية، واستفتاء الدستور، بالإضافة إلى المشاركة في ثورة 30 يونيو.
بعكس صديقة عمرها سمية، التي داومت على حضور العديد من المباريات "بطولة إفريقيا حدث مختلف"، فالضجة الإعلامية واستعدادات الدولة لها، جعلهن يتفقن سويًا على الحضور، إذ تأهبن لها قبل بدئه، حرصُا منهم على مؤزارة المنتخب "المرة دي كمان محمد صلاح بيلعب وأنا بحبه.. غير أن لازم نقول للعالم إننا قد المسؤلية وبنرحب بكل ضيوفنا"، فالسيدة صاحبة البشرة الحنطية، أكدت على أنها تتابع العديد من مباريات الدول الأخرى "كلنا واحد وبنشجع بعض.. ومصر بلد الثقافات ولازم نظهر بشكل يليق ببلدنا". فصل جديد كتبته المرأة المصرية في دورها في الأحداث الرياضية بعكس الأعوام المنصرمة.
"مفيش راجل وست"، عبارة رددتها سالي شاهين، مدرسة اللغة العربية في إحدى المدارس الحكومية-التي ظلت رفع علم مصر طيلة المباراة- تؤكد بها أن نظرة الرجل للمرأة اختلفت كثيرًا، ففي الماضي كان من الصعب رؤية فتيات وسيدات يقبعن على المقاهي، إلا أن أهمية دور المرأة بالمجتمع فرض على الجميع الاعتراف به، بل احترامه وتقديره، هكذا وصفت الشابة التي على مشارف الثلاثين مشهد تصدر السيدات الصف الأول على المقاهي، خاصة الشعبية "خلاص الزمن اتغير.. ونجاح المرأة في أكتر المجالات جعلها في أول القائمة.. وبعدين بلدنا محتاجة ده.. ودايما المرأة المصرية ما بتقولش لأ لما مصر تناديها".
تترقب عيون الفتيات مع مرور الدقائق الأولى للمباراة- التي تقام على ملعب "استاد القاهرة" ضمن الجولة الثالثة والأخيرة من دور المجموعات بمسابقة كأس الأمم الأفريقية-، أداء المنتخب الوطني، متتابعين خطوات اللاعب محمد صلاح نجم ليفربول والمنتخب المصري، مرددين "يارب"، ليسجل "مو" هدفًا في شباك المنتخب الأوغندي في الدقيقة (36) من زمن أحداث الشوط الأول بعدما نفذ ركلة حرة مباشرة قوية سدها على يسار الحارس، ليتعالى أصوات الجميع بالأهازيج الوطنية.
واستمرت حالة الترصد مختلطة بحالة من الهدوء بين جميع الحاضرين، بينما ظلت عزة عبد النبي، تصفق "الثاني يا صلاح"، ولكن قاطعتها صافرة الحكم ليعلن انتهاء الشوط الأول. ويبدء انتعاشة حالة محال العصائر الذي تأهب برفقة المقهى المجاورة له لبطولة كأس أمم افريقيا 2019، طلبات السيدات والأطفال والصبايا تتزايد، حتى بدء الشوط الثاني، الحماس يلتهب الجماهير، ولا زالت السيدة الأربعينية-التي ترى أن حضورها لمشاهدة المباراة على مقهى في منطقة شعبية أمرًا طبيعيًا وحق مشروع "وأهو بنمدن المناطق الشعبية"-، نظراتها تتبع لاعبي المنتخب، حتى حقق قائد المنتخب المحترف في صفوف أستون فيلا الإنجليزي أحمد المحمدي، هدفًا في الدقيقة 46 لتصبح النتيجة (2-0).