د. رشا سمير تكتب: وغابت قبل شمس الشروق
ذلك اليوم بدا مختلفا..بدا أكثر حنوا..بدا أكثر إشراقا..وأكثر قربا من القلوب..حتى أن شمسه لم تتوارى خلف السُحب كعادتها فى مثل ذلك الوقت من العام، بل أطلقت شمسه العنان لأشعتها كي تتسلل فى تؤدة وتحتل ملامح البشر وسنابل القمح فى الحقول.
ذلك اليوم كان بالنسبة إليها بداية جديدة تحمل ملامح أحلام طالما سكنتها وآمال طالما طمحت إليها..
كانت تلك الأحاسيس هى مزيج مشاعر "شروق" فى هذا الصباح المختلف..
خرجت من غرفتها إلى الشرفة التى تُطل على البحر لتجد أمها وجدتها جالستين تحتسيان القهوة.. .قالت لهما بنبرة إنتصار:
" أخيرا وصلني خطاب بقبولي فى الشركة التى طالما حلمت فى العمل بها والفضل له".
كانت سعادة الأم والجدة لا توصف، فشروق بالنسبة إليهما ليست مجرد إبنة العائلة ولكنها فتاة مصرية صميمة تمتلك طموح الدنيا بأسرها فى عينيها..
ربما أتعسها الحظ فى أشياء وأسعدها فى بعض من الأحيان الأخرى..لكنها كانت وبكل الرضا تتقبل الهزائم قبل الغنائم..وترضى بما قسمه الله لها بإبتسامة عرفها عنها كل أهالي منطقة سيدى بشر من جيرانها وأصدقائها..
ولأنها من عائلة فقيرة الحال، توفى والدها وهى صغيرة وترك لها الأم والجدة وثلاثة أشقاء هم الحمل الثقيل فى رقبتها..
بعد أن كانت أحد أفراد هذه الأسرة تحولت بين اليوم والآخر إلى عائلها الوحيد..وتحولت أحلام كل فرد فيها إلى طوق في رقبتها..
لم يكن أمامها خيار سوى أن تترك المدرسة وتبحث عن عمل..وهكذا لم تنتهى من دراستها الثانوية، واضطرت إلى العمل كسكرتيرة فى مكتب أحد المحامين..
لم يكن جو العمل من الأشياء التى تقبلتها بسهولة..فالبداية كانت مجموعة من المضايقات من قبل الفتيات الموجودات بالمكتب وانتهت أشهر العمل إلى بداية شعور لا إرادى أن ثمة شئ غير مريح فى نظرات صاحب المكتب..
إلى أن كان اليوم الذى طلب فيه منها صراحة أن تصبح عشيقته ويعطيها مبلغا إضافيا كل شهر!..لم تسعفها الكلمات ولكنها حاولت:
" لم أكن أتصور أن الرجل الذى يترافع بصوت الحق هو الرجل الذى ينزلق إلى أدنى درجات الرذيلة..الله واحد يا صاحب الفضيلة".
لم تشعر إلا ويده تنهال على وجهها تصفعها..لتنهار الدموع من عينيها شلالا وتجرى تلملم أشلاء كرامتها فتعود إلى البيت وهي تجر أذيال الخيبة..
وتبدأ من جديد..
عاملة فى مصنع منسوجات..مشرفة دور فى أحد المستشفيات..جارسونة فى مطعم..
تبدأ الحكاية بطموح ومحاولة لإثبات الذات وتنتهى الرحلة بفشل وعودة إلى نقطة الصفر..
إلى أن قابلته.."سامح"..
شاب له عقلية مختلفة ومنفتح على العالم بألف طريقة إلا أنه أيضا محترف للفقر والحاجة مثلها تماما..فهكذا تتلاقى أقدار الفقراء فى نفس الحكايا والمواقف..
تخرج من كلية الإعلام، حلمه الأكبر هو أن يصبح رئيس تحرير الواشنطن بوست! ولا يوجد في جيبه سوى جنيهات قليلة..أحلامه كانت قدرا أكبر من إمكانياته..لكنه لم يضعف يوما أو يستسلم..طرق كل الأبواب وحمل كل الأثقال وقرر أن يصنع لنفسه مكانا تحت الشمس..
قابلها ووقع فى غرامها منذ اللقاء الأول..إستمع إلى كل كبواتها وإخفاقاتها وأمنياتها، حدثها عن أحلامه وحياته التى أثقلها أب وقع تحت طائلة تعاطي المخدرات ومنها إنتقل إلى الإتجار حتى إنتهى به الأمر فى غياهب السجون، وتحمل الإبن مسئولية الأسرة بأكملها، فأصبح الأب والإبن والزوج حتى تزوجت أمه من جديد وهو لازال عائلها.
الغريبة أن قصتيهما تشابهت إلى حد كبير، وأن أقدارهما تعانقت وكأن الطريق الذى قدر لهما السير فيه بمفرديهما، أصبح الآن طريق واحد.
أصبح مع الوقت سندا لها وظهرها فى كل المواقف..لكن اليد دائما كانت قصيرة..
حفزها على إستكمال دراستها لتحصل على الثانوية العامة..وعندما لاح النور فى نهاية الطريق..قررت أن تمضي قُدما فى طريق بدأته..وتستكمل النجاح بنجاحات أخرى فى ظل حب صنع لها كيانا ومصيرا آخر..
دخلت الجامعة المفتوحة ونجحت وهى تكدح ليل نهار وتغفو على المكتب فى المساء من شدة الإرهاق، فيأتى أخاها الأصغر ويربت على كتفها ثم يقبلها ويقول لها:
" إذهبي إلى النوم يا أمي".
كان يناديها بلقب (أمي) وينادى أمه (ماما) حتى يفرقهما عن بعض..فالأمومة لم تكن بالنسبة لطفل فى العاشرة من عمره سوى الحنان والعطف، والأمومة فى المطلق ليست إلا حضن واحتواء.
مضت الأيام وحبهما يكبر ويترعرع وويدفعهما بالأمل إلى بيت لا يمتلكان حقه وكوشة وورد وأحلام كثيرة تحتاج إلى مال لا يمتلكانه.
" متى نتزوج؟"
قالها والدمع يترقرق فى عينيه..ردت بصوت منكسر يمتزج بالأمل:
" اليوم قبل الغد ولكن..كيف والأحمال فوق ظهرينا كادت أن تقسمه"
" لقد تقدمت إلى عمل فى جريدة تصدر بالقاهرة ولسوف أسافر لمقابلتهم غدا".
إبتسمت وعادت تقول:
" ألف مبروك..تستحقها..على يقين من أننى سوف أكون بجوارك يوما ما حين تصبح رئيس تحريرها".
رد بكل حب وسعادة:
" أكيد، وكيف أنجح إلا وأنت بجواري؟!"
بعد تخرجها من كلية التجارة بالجامعة المفتوحة طرقت كل الأبواب من أجل أن تجد عمل مناسب..وبعد بحث طويل ومراسلات ومقابلات شبه يومية، إستطاع سامح أن يجد لها عملا معه فى القاهرة فى أحد الشركات الخاصة بالدعاية والإعلان..
العقبة الوحيدة التى قابلتها هى أنها يجب أن تنتقل من الأسكندرية إلى القاهرة، وكيف لها أن تترك أسرتها الصغيرة وأين تعيش..
هنا قرر سامح أن يحسم الأمر..ذهب إلى والدتها وطلب يدها وقرر أن يتحدى الفقر بكل قيوده ويتمرد على كل الأوضاع..
حكى لها عن حياته بكل صراحة قائلا:
" أنا اليوم أتقدم لطلب يد إبنتك، دون وعود، فأنا لا أمتلك من المال ما يمكننى من إعطاء أى وعود، ولا أمتلك سوى حبي لها وأحلامي معها..أعدك أننى سوف أضعها فى قلبي وأوصد عليها الباب حتى لا تجرحها العيون..ولسوف نقتسم مسئولياتنا سويا..شبكتها حبي وإخلاصي ومهرها ودي..ومؤخرها مليون جنيه لأننى لن أتركها قط".
وافقت الأم، وكيف ترفض بعد كل العشق الذى تراه فى عينيه..
أجر سامح بيت صغير فى شبرا ليصبح عشهما الصغير فى الأربعة أيام التى تكون فيهم شروق بالقاهرة..
ذلك اليوم بدا مختلفا..بدا أكثر حنوا..بدا أكثر إشراقا..وأكثر قربا من القلوب..حتى أن شمسه لم تتوارى خلف السُحب كعادتها فى مثل ذلك الوقت من العام، بل أطلقت شمسه العنان لأشعتها كي تتسلل فى تؤدة وتحتل ملامح البشر وسنابل القمح فى الحقول.
كان فى إنتظار قدومها..وكانت هى فى إنتظار تلك الفرحة لتسكن قلبها أخيرا..
ودعت أمها وجدتها وجثت على ركبتيها تحتضن أخيها الصغير الذى إنهمرت الدموع من عينيه شلالا وقال لها:
" لا تتركيني..من سيحكي لي حدوتة كل يوم ومن سيساعدني فى واجب المدرسة"
" أنا طبعا..سوف أقضي أربعة أيام في القاهرة وباقي الأسبوع معك..وأعدك أنني سأخذك فى أجازة الصيف لتزور الهرم..إتفقنا"
إبتسم في محاولة للتغلب على حزنه وقال متلعثما:
" إتفقنا"
وصلت شروق إلى محطة القطار بشارع رمسيس وهى تحمل الأمل فى عينيها..كان سامح فى إستقبالها والإبتسامة ملئ شفتيه..قالت له:
" أخيرا..آن أوان أن نفرح وأن نلتقي وأن نعانق أحلامنا ".
إحتضنها وقال لها:
" حبيبتي..إنتظريني هنا حتى أعود بتاكسي يأخذنا إلى عش الحُب".
قبل أن يصل إلى باب المحطة، سمع دوي إنفجار كبير وتطايرت النيران في كل مكان..إنفجر قطار على رصيف المحطة دون أى سبب ولا أى مقدمات..
لم يلتقط سامح أنفاسه بل جرى مثل المجنون ليعود إلى نفس المكان الذى تركها فيه..
هرج ومرج وأصوات صراخ وعويل..
هذا يجري والنار ممسكة بملابسه وهذه تخلع ملابسها التى تشتعل بالنار علها تنجو..
فى دقائق معدودة كان رصيف القطار قد تحول إلى كرة من النار، وبعد ساعات من فقدان الأمل والتخبط، كانت الجثث المتفحمة قد تناثرت هنا وهناك..
من بين الصراخ والنيران والعويل ولدت ألف قصة وقصة، وتناثرت الحكايات تحكى عن بشر إلتقت مصائرهم على رصيف القطار ليلتقوا فى طريق واحد هو طريق الموت..حتى لو كانت أقدارهم قد قد أتت بهم من ألف مكان بعيد..
وقفت الكلمات فى حلق سامح..خنقه صراخ الأطفال..وذبحته أشلاء الجثث..وماتت أحلامه على أعتاب تلك اللحظات التى أخذ يبحث فيها عن شروق دون أثر واحد لها..
نعم بدا ذلك اليوم مختلفا..بدا أكثر سوادا..بدا أكثر حزنا..وبدا أكثر قسوة على بيوت فقدت عائلها وأطفال فقدوا ذويهم، وآباء وأمهات أبكاهم إنكسارهم أمام جثث أطفالهم..
لم يقدر لشروق أن ترتدى طرحة الفرح..فالفرح لم يكن من مقدراتها..
هكذا قتل الموت الفرح فى قلوب من إعتادوه ومن بحثوا عنه ومن حلموا به ومن غابوا فغابت شمسهم..