د. نصار عبدالله يكتب: أكره الديمقراطية.. ولكن
قد يندهش القارئ حينما أقول له إننى أكره الديمقراطية.. لكنه سيندهش أكثر عندما أقول له إننى رغم كراهيتى لها متمسك بها، ومستعد للدفاع عنها حتى آخر نفس فى حياتى!!.. ربما يبدو كلامى متناقضا، وكأن القارئ لا يعرف أننا كثيرا ما نكره أشياء معينة لكننا نتمسك بها لأننا لو تخلينا عنها فسوف نواجه ما هو أسوأ. «على سبيل المثال: يكره المرء عملا يعمله أو مهنة يمتهنها، لكنه يتمسك بها لأن البديل هو الجوع، أو يكره زوج ما زوجته، لكنه يتمسك بها من أجل الأطفال».. وأعود إلى الديمقراطية لأقول إنى أتمسك بها ليس لأنى أراها خيرا فى حد ذاتها، ولكننى أراها شرا، غير أن البدائل العملية الأخرى أكثر منها شرا بكثير.. والسؤال المنطقى الذى سوف يقفز إلى ذهن القارئ هو: لماذا على وجه التحديد أرى الديمقراطية شرا؟ وجوابى لأنها فى صورتها المعاصرة «القائمة على الانتخاب» لا تفرز الأصلح بالضرورة، ولا الأكفأ، ولا الأقدر على تحقيق الصالح العام، ولكنها غالبا إن لم يكن دائما تفرز الأقدر على مغازلة مشاعر القواعد الانتخابية واستنفار كل ما هو كامن فيها من الغرائز الإنسانية وفى مقدمتها الرغبة فى تسيد الآخرين وسبقهم والعلو عليهم.. فالديمقراطية هى التى أفرزت هتلر الذى وصل إلى الحكم من خلال انتخابات حرة نزيهة، والذى قاد بلاده بعد ذلك إلى كارثة مروعة، وهى أيضا التى أفرزت موسولينى شريكه فى تلك الكارثة التى ترتب عليها إزهاق حياة ما يزيد على 70 مليون إنسان، وتشويه وإعاقة ما يقرب من ضعف هذا العدد! كذلك فإن الديمقراطية هى التى هيأت للمنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الجماعات العنصرية والإرهابية فى مصر فرصة الفوز الكاسح فى مجلسى: الشعب والشورى عامى 2011 و2012، وهى التى هيأت لأحد أتباع «المرشد» أن يصل إلى موقع رئيس الجمهورية، وقد بدأ عهده بالإفراج عن عدد من المسجونين من أعضاء الجماعات الإرهابية ممن كانت أيديهم ملطخة بدماء المصريين والذين صدرت ضدهم أحكام قضائية نهائية، وحين بدأت الجماعة بعد أن تولت سدة الحكم، حين بدأت فى تنحية الكفاءات فى المواقع المهمة المختلفة وتعيين أتباعها بدلا منهم، بدأ المصريون يفيقون على هول الكارثة وهى أن من وصلوا بالديمقراطية إلى مواقع التشريع والحكم فى مصر لا يعملون لصالح مصر، ولكنهم يعملون لصالح الجماعة، ومن هنا كان انفجار الشعب المصرى فى يونيو 2013 الذى ما كان ليكلل بالنجاح لولا وقوف القوات المسلحة المصرية إلى جانبه، ولحسن الحظ فإن الجماعة لم تكن قد نجحت بعد فى تنفيذ مخططها الرامى إلى أخونة الجيش والشرطة بدءا من المنبع «قصر القبول فى الكليات العسكرية على أبناء المنتمين للجماعة أو المتعاطفين معها» ثم انتقالا بعد ذلك إلى القيادات الوسيطة والعليا...ومن ناحية أخرى فإن ما يحدث على المستوى السياسى كثيرا ما يتكرر بصورة أو بأخرى على المستوى النقابى حيث كثيرا ما تسفر انتخابات مجالس إدارة النقابات والنوادى إلى أن يتقدم الصفوف أكثر المرشحين قدرة على التلاعب بالمشاعر والعواطف والذى قد لا يكون هو بالضرورة أكثر المرشحين قدرة على خدمة أبناء نقابته أو مهنته مع خدمة الوطن بأكمله فى الوقت ذاته، بل إن المزايدات الانتخابية فى بعض النقابات والنوادى كثيرا ما يتجاوز تأثيرها نطاق النقابة أو النادى، حيث تصل آثاره ومضاعفاته إلى المواطنين العاديين الذين ربما دفعوا لها ثمنا باهظا قد يصل فى بعض الحالات إلى فقدانهم لحرياتهم أو أحيانا لأرواحهم «انظر مثلا إلى عمليات المزايدة والشحن التى يقوم بها المرشحون فى النوادى الرياضية الكبرى لا مصر وحدها بل فى الكثير من دول العالم، فقد كان ذلك الشحن واحدا من الأسباب التى أدت إلى اندلاع الحرب بين الهندوراس والسلفادور فى أعقاب إعلان نتيجة مباراة رياضية بين الدولتين عام 1970 وقد أسفرت تلك الحرب المؤسفة عن سقوط ستة آلاف قتيل من أبناء الدولتين، ونتيجة لهذا الشحن ذاته فقد توترت العلاقات بين مصر والجزائر فى عام 2009، وكادت الأمور تصل إلى حد الحرب بين الدولتين الشقيقتين فى أعقاب مباراة جرت بينهما فى الخرطوم..تسألنى بعد ذلك لماذا أكره الديمقراطية؟.. إننى أكرهها للأسباب سالفة الذكر، ومع هذا فهى رغم كل عيوبها بديل لا غنى عنه، لأن الحاكم المستبد العادل، الذى هو حلم طالما حلم به البشر منذ أيام أفلاطون، مثل هذا الحاكم لو تولى الحكم فسرعان ما سوف يتحول حين يطول به الزمن فى سلطته إلى طاغية لا يراعى سوى مصالحه الخاصة، وهذه كارثة تفوق الديمقراطية فى شرورها.