كواليس 3 أيام من الرعب عاشتها قرية "الهردة" بحثًا عن أبنائها المختطفين في ليبيا: هددونا ببيعهم لداعش
كانت الساعة تقترب من الثانية ظهرًا، الهدوء يعم الأرجاء بقرية الهردة التابعة لمركز مطوبس بمحافظة كفر الشيخ، فلا يقطع حالة الصمت المعتادة سوى جرس الهاتف يرن، ليجيب المهندس سمير جابر على عجلة من أمره، عله يطمئن على حال نجله كما اعتاد، وبينما انتظر يستمع إلى نبرة صوت صغيره، كان الرد كابوسًا يكفي لقلب حياة القرية الصغيرة رأسًا على عقب.
العرق يتصبب على جبينه، وحدقتا عينيه اتسعتا في ذهول، أما لسانه فعجز عن النطق، لوهلة ظل يتأمل المحيطين به في توتر بينما تتشبث يده بجواله الصغير، فالأسرة تلتف حوله كما جرت العادة كلما تلقوا اتصالًا، وأهالي القرية يجتمعون لمهاتفة شبابهم، الجميع ينتظر من "جابر" أن يكسر حالته الصامتة ليطمئنهم على حال أبنائهم المهاجرين إلى مدينة طبرق الليبية منذ عدة أشهر بحثًا عن لقمة العيش، فهم يعملون باليومية لدى مقاول من أبناء قريتهم يدعى سلامة الفالح.
دقائق معدودة من الصمت، لم يستفق منها المهندس سمير جابر، سوى مع انتهاء المكالمة المشؤومة، ليروي لأهالي القرية أنه تلقى اتصالًا هاتفيًا من جماعة ليبية اختطفت 16 شابًا من أبنائهم، من بينهم نجله وشقيقه.
وبنبرة يشوبها الهلع، يستطرد "جابر" موضحًا لأهالي بلدته أن عملية خطف شبابهم جرت انتقامًا من المقاول المصري "سلامة" الذي نهب أحد رجال الأعمال الليبيين مؤخرًا ثم فر هاربًا إلى مسقط رأسه، ليصبح شباب القرية العاملين بالمدينة هم وسيلة الضغط التي يحاول الليبيون أن يستعيدوا بها أموالهم المسروقة، مستغلين الانفلات الأمني الذي تشهده طبرق.
"إما الدفع أو البيع لداعش".. ينتفض جسد "جابر" كلما تذكر هذه الكلمات التي كانت بمثابة عبارات تهديد ووعيد من قبل الليبيين، والتي أعادت إلى ذاكرته صورة الأقباط الذين سقطوا ضحايا للتنظيم الإرهابي في وقت سابق، لينتهي مصيرهم بالذبح على الهواء في ليبيا، فتُنسج على الفور في مخيلته صورة لنهاية نجله وأخيه المأساوية إذا لم ينجح في إنقاذهما، فيزداد تخبطًا.
تمر الساعات، ولا يزال الأب المكلوم يفكر مطولًا في حل لهذه الكارثة التي حلت بعائلته، فهو يدرك جيدًا أن الجماعة التي اختطفت شباب كفر الشيخ تستهدف الانتقام من "سلامة"، لذا قررت أن تستغل خلو مدينة طبرق من حماية الجيش والشرطة في ظل وجود قبائل متفرقة تسيطر عليها، ليدسوا الخوف في قلوب أهالي قرية الهردة، بتهديدهم أن ينتهي مصير أبنائهم ببيع أعضائهم أو بيعهم مباشرة إلى جماعة من داعش لقتلهم.
"كانت عينهم متغطية وقاعدين باين عليهم آثار تعذيب وخوف".. هكذا يصف المهندس الصورة الأخيرة التي لا تفارق ذاكرته منذ أن أرسلتها الجماعة الليبية له قبل أن تقطع الاتصال معه، فما كان بيده حيلة سوى أن يجتمع مع أهالي الهردة لينقضوا على سلامة الفالح، المقاول المحتال الذي عاد إلى القرية بعدما سلب الملايين من رجل الأعمال الليبي، غير عابئ بمصير أبناء بلدته، ليطالبوه بإنقاذ أبنائهم ودفع المبلغ المالي المطلوب.
تمزق قلب سمير جابر بعدما تلاشى أمله الوحيد في إنقاذ نجله وشقيقه، فالمقاول رفض الاعتراف باحتياله، فبالرغم من اختبائه بعيدًا عن القرية لفترة، إلا أن خوف أسرة "سلامة" على مصيره بين يدي أهالي البلدة، دفعهم لتسليمه إلى مركز الشرطة بالقرية للتحقيق معه، ولكنه أنكر خلال الاستجواب ما نُسب إليه، موجهًا اتهامه إلى رجل الأعمال الليبي بافتعال قصة السرقة، للانتقام منه بعدما رفض دفع الإتاوة التي حاول إرغامه عليها.
لم يقطع حالة الحزن التي تسود القرية منذ يومين، سوى جرس هاتف المهندس "جابر" الذي تزامن مع دقات العاشرة من مساء يوم الأربعاء، ليهاتفه بعض أهالي القرية المتبرعين بالمال، فتنهال البشرى على مسامعه بأنهم تمكنوا من تسليم المبلغ المطلوب إلى جماعة طبرق التي حررت أبناء الهردة المختطفين وسط زغاريد أعادت الطمأنينة من جديد إلى أهالي البلدة الصغيرة.