بطرس دانيال يكتب: قايين وهابيل.. العصر الحديث
أول جريمة فى التاريخ.. أخ يقتل أخاه وهى أقدم تحيّة للصداقة أيضاً. تألّمنا كثيراً لما حدث منذ أيامٍ قليلة لعائلات كان سلاحها الوحيد الإيمان بالله الواحد وحُب الآخر، وكانت فى طريقها إلى دير الأنبا صموئيل للصلاة والتعبّد، ولكن للأسف اعترض طريقهم أشخاص يدّعون التديّن متسلّحين بأدوات القتل والإرهاب وانْقضّوا عليهم، ومبررهم الوحيد أن هؤلاء الأبرياء هم أعداء لهم طالما يؤمنون بعقيدةٍ أخرى، وهنا نسترجع ما حدث فى بداية البشرية كما تُذكّرنا الكتب المقدسة وهى أول جريمة سُجّلت تحكى عن قتل قايين لأخيه هابيل. مما لا شك فيه أننا كنّا نتوقّع ثمرة أول لقاء بين أخ وأخيه، تكون الأعناق والقُبلات والحُب، ولكنها كانت قتلاً، كنّا نتخيّل المحبة، لكننا أمام العنف؛ ولم يكن قتلاً لعدوٍ ولكن لأخٍ، نقرأ فى سفر ملاخى: «أَمَا لنا كُلّنا أبٌ واحدٌ؟ أَمَا إلهٌ واحدٌ خَلَقَنا؟ فلماذا يغدَرُ الواحدُ بالآخر مُدَنّساً عهد الله مع آبائنا؟» (10:2). كم من جرائم القتل تحوط بنا بسبب الغيرة والحسد؟ كم من أرواح زُهِقت دون مبررٍ أو سبب؟ وهذا ما نستشّفه من جريمة قايين الذى لم يعتبر هابيل أخاً له، ولكن منافساً وعائقاً له حتى يستطيع أن يمتلك كل شيء. انقطع الحوار وحلّ محلّه العنف والغدر، لم تظهر أى رغبة للحديث معاً، من الممكن أن يكون تم حديث بينهما، ولكن من طرفٍ واحد، تكلّم قايين دون أن يُعطى الفرصة لأخيه فى الرد أو الدفاع عن نفسه، وهذا ما يحدث فى جرائم متعددة، فقدان الحوار واللقاء وجهاً لوجه وعدم قبول الآخر، وتكون النتيجة: الخَرَسْ والعنف. إن الكلمة هى المكان الأول للسلام أو الحرب، للقبول أو الرفض، للحُب أو البغض، فكانت الخطيئة الأولى الانحراف عن الكلمة. وعندما يصل الإنسان إلى الطمع والجشع، حتماً ستكون النتيجة العنف والقتل، ويتمسّك الإنسان برأيه دون أى اعتبار للآخر قائلاً: «هذه الأرض مِلكاً لي»؛ «هذا المكان الذى تطأه قدماك هو لى بمفردى، إذاً يجب أن تنصرف من هنا». مما لا شك فيه أن الحروب مبنيّة على مبدأ حُب التملك والاستحواذ حتى أن الإنسان يرى فى الآخر عدواً له يجب التخلّص منه، ونجد هذا أيضاً فى العقيدة والإيمان عندما يدّعى أحد الأشخاص بأنه هو الوحيد الذى يمتلك الحقيقة؛ أو أن دينه هو الدين الصحيح وليس سواه؛ أو أن الله له فقط؛ وعقيدته هى الوحيدة المعترف بها لدى الله؛ كل هذه المفاهيم تقود الإنسان إلى عدم قبول الآخر والشروع فى التخلّص منه. وكان السؤال الأول من الله للقاتل: «أين هابيل أخوك؟» ويرد قايين بنبرة ازدراء: «لا أعرف. أحارسٌ أنا لأخي؟» (تكوين 9:4)، كما لو أنه يريد أن يُعلن ذلك: «أنا لا أعرفه، لا يهمّنى، هذا الشخص لا يخصني»، هنا يريد أن يتبرّأ من التهمة المنسوبة إليه. هذا ما يحدث معنا عندما نقول: «هذا الشخص لا ينتمى إلى عقيدتى»؛ «إنه يعترف بإيمانٍ آخر»، «قتلته لأنه كان ذاهباً للصلاة وليس ليَسْكَر فى حانةٍ، فهو مختلف عنّا وليس من أتباعنا». كم من مرةٍ نتساءل: «أين الله؟» عند حدوث كوارث أو أفعال غير إنسانية؛ ولم نتساءل: «أين أنت أيها الإنسان؟»؛ «لماذا فعلت هذا؟» ولا ننسى أن حق البريء لن يضيع أبداً، لأن دمه يصرخ إلى الله، «فقال له الرب: دمُ أخيك يصرخُ إليّ من الأرض» (تكوين 10:4)، فالدم المسفوك يصل إلى الله ويُؤلمه، قايين لم يسمع هذا الصوت عندما قتلَ أخيه، ولكن الله فقط هو الذى يسمعه، توجد حالات عديدة فيها يصل صوت الضعيف والمظلوم والبرئ واليتيم والأرملة إلى الله كصلاة، من المؤكد أن هابيل المجنى عليه هو صورة جميع الضحايا الأبرياء الذين لا يتكلّمون بأفواههم، ولكن دماءهم تعبّر عن ظلمهم، قابيل الذى لم يفتح فاه قبل مقتله، يتكلّم بعد الاعتداء عليه. كم من الجرائم اُرتكبت فى العالم بسبب الأنانية وسوء فهم الآخر، لقد جرّدتنا الحضارة المادية من معانٍ كثيرة، أولها الحُب وآخرها الحياة... فصار مُعظمنا بلا رحمة. مَنْ لم يتأثر بحادث قتل الأبرياء فهو ليس إنساناً، لأن الله خلقنا جميعاً كأسرةٍ واحدة ومنحنا الأحاسيس والشعور تجاه الآخرين خاصةً المتألمين والمظلومين. ليس الفخر فى أن تقهر قوياً، بل فى أن تنصف ضعيفاً، ونختم بكلمات ولتير: «إن الذين يجعلونك تعتقد بما هو مخالف للعقل، قادرون على جعلك ترتكب الفظائع».