ليت صوتك يسري ويستجيب ندائي.. "زمزم" تتنفس رحيق زوجها بجوار قبره
ترتكن مستندة على الباب، تختطف اللحظات لتطل برأسها على بعد تلك الخطوات التي تفصلها عن ضجيج الحياة، فما تشاهده يختلف عن عالمها الذي رُسمت خيوطه منذ سنوات بعيدة، لتنفرد بحياة قاسية ولكنها تراها مريحة.
فلا يفصل الحاجة زمزم، سوى أمتار قليلة بين سوق الجمعة والحارة التي تمكث بها، لتخفى خلف جلبابها حياة كما الأموات في أحضان "الراقدون تحت التراب".
فما إن يفتح الباب وتتسرب أشعة الشمس إلى المكان، تستوى الأرض خلفه فيما عدا فوهات المقابر التي يعتليها قطع الرخام لتكشف عن أسماء الراقدين بالمدفن الذي تعيش فيه الحاجة "زمزم" منذ زواجها قبل عمر بعيد، ليحتضن ذات المدفن جسد زوجها الذي فارق الحياة، ولكنه لم يتركها بل جاورها حتى في موته.
ومن أعلى رقبة طبية تحاوط عنقها، ترتسم الابتسامة على جبهة السيدة التي كسرت حاجز الستون عامًا، ويحاوطها الرضا بمعيشتها البسيطة، وينطق لسانها بالدعاء لنجلها الثلاثيني الذي يجالسها في معيشتها، فتحلم له بعمل يكسب قوت يومه منه وبزوجة صالحة تسانده كما كانت تفعل مع رفيق عمرها قبل رحيله.
ترتب السيدة الستينية خصلات شهرها الأبيض، الذى ظهر كاللولؤ من أسفل حجابها، ثم تعود بذاكرتها إلى حياتها مع زوجها في الغرفة الملتصقة بالمقابر داخل المدفن، فكان الرضا والحب سبيلان لطمأنة قلبها منذ بداية حياتها وحتى الآن بعد فقدان شريك حياتها، فتشعر به يجاورها دائمًا بروحه وجسده حتى وإن لم تكن تتحدث إليه أو تستمع إلى صوته.
"الحياة هنا أحلى".. ترددها الحاجة زمزم مسبوقة بتنهيدة تحمل أسمى معاني الرضا بحياتها، فهي ترى في مجالسة الأموات راحة، فيكفيها أنهم لا يمسونها بأذى كما يفعل بني البشر بين بعضهم البعض، ولا يعلو صوت المكان سوى بآيات القرآن المصاحبة لدفن الموتى بمقابرهم.
ورغم انفصالها عن العالم الخارجي؛ ترى السيدة الستينية أن الحياة تختلف عن الأعوام السابقة، فتلتمس صعوبة الحياة من وجوه المترددين على سوق الجمعة، رغم زهد أسعاره لكونه ملجأ للفقراء.
وبينما يأذن للشمس بالرحيل؛ تشد الحاجة "زمزم" ضعف جسدها لتستند واقفة على الباب، فتعود إلى حجرتها التي لا يزينها سوى سرير ترمي عليه أثقال الحياة، مطلقة السلام قبل أن تعود إلى زوجها الذي يرقد بجوار غرفتها لتقاسمه الأحاديث اليومية التي اعتادت ألا تجد لها جوابًا منه، ملتزمة بوعدها أنها سترافقه ذات يوم بأن ترقد إلى جانب قبره، ليكون لهما لقاءا آخر في دار الحق.