كيف نجح نظام الملالي بإيران بتحويل الإنترنت لسجن كبير؟
في يوليو (تموز) الماضي، فوجئ الإيرانيون بظهور فتيات وشباب لا تتعدى أعمارهن 20 عامًا، في أحد البرامج على التلفزيون الرسمي الإيراني، يتحدثون عن خطيئتهم بنشر مقاطع مصورة لهم على حساباتهم الخاصة على موقع «إنستجرام».
ظهرت مائدة حجابرى البالغة من العمر 18 عامًا وهي تبكي بشدة، وتدافع عن نفسها قائلة: «لم أفعل أي شيء سيئ»، كانت مائدة قد نشرت مقاطع مصورة لها وهي ترقص، وكتبت على حسابها أنها «هاوية لرياضة الجمباز والرقص”.
قبل ذلك بنحو شهرين، كان رئيس شرطة جرائم الإنترنت قد أعلن أنه تجري مراقبة عدد من الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، والتأكد من نشرها محتوى غير أخلاقي يهدف إلى هدم القيم الإيرانية، وجرى عرض الأمر على الهيئة القضائية لإصدار أوامر باعتقال أصحاب تلك الحسابات.
الحرس الثوري لمراقبة الإنترنت
في بلد مثل إيران من السهل توقع أي شيء، وقد كان اعتبار الإيرانيين مواقع التواصل الاجتماعي المكان الوحيد الذي يمكن استخدامه للتعبير عن آرائهم السياسية ومشاكلهم الاجتماعية، سببًا كافيًا برأي كثيرين لجعل النظام الإيراني يتعامل مع الإنترنت كالعدو.
في عام 2011 وقف المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي وسط الحشود، وأصدر فتواه بخصوص مواقع التواصل الاجتماعي قائلًا: «إذا كان استخدام مواقع التواصل الاجتماعي سيؤدي إلى فعل الشر، ونشر الأكاذيب التي تساعد الأعداء ضد المسلمين، فاستخدامه محرم».
لم يشن النظام الإيراني الحرب على مواقع التواصل الاجتماعي بعد تلك الفتوى، ولكن من قبلها، تحديدًا منذ عام 2009 والمظاهرات التي عرفت باسم «الحركة الخضراء» احتجاجًا على فوز محمود أحمدي نجاد بفترة رئاسية جديدة. فبعد أن استخدام الإيرانيون الإنترنت لإطلاع العالم الخارجي على ما يحدث في إيران في تلك الفترة، حجبت السلطات الإيرانية أغلب مواقع الأخبار الأجنبية، و«فيسبوك»، و«تويتر» و«يوتيوب”.
فما كان لدى الإيرانيين سوى استخدام برامج VPN لكسر الحجب، فأقدم النظام على تقليل سرعات الإنترنت إلى الحد الأدنى لوضع المزيد من العقبات أمام الإيرانيين، فأصبح متوسط سرعة الإنترنت في إيران 2 ميجا بايت/ الثانية.
أدرك النظام في إيران أن أمر حجب المواقع لا فائدة منه، في ظل وجود برامج لتخطي الحجب، فأنشئ في عام المجلس الأعلى للفضاء الافتراضي (الإنترنت) التابع للحرس الثوري، بجانب شرطة مكافحة جرائم الإنترنت
يقول سعيد هاشمي مهندس الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات لـ«ساسة بوست»: «السلطات الإيرانية طلبت مرارًا وتكرارًا من مسؤولي تطبيقات التواصل الاجتماعي نقل خوادم نقل البيانات داخل إيران، بحجة حماية المستخدمين الإيرانيين، ولكن جميعهم رفضوا، فلجأت السلطات إلى المراقبة، وتعيين أفراد من الباسيج «قوات مدنية تابعة للحرس الثوري»، لمراقبة أفعال الإيرانيين على تلك المواقع”.
الأمن الإيراني يطلق عناكبه
في عام 2014 أعلن رئيس شرطة جرائم الإنترنت أنهم يراقبون حوالي 6 ملايين حساب على «فيسبوك» ضمن إطار عملية «عنكبوت1» (نسبة إلى الشبكة العنكبوتية)، لمنع انتشار الفاحشة، والتأكد من عدم بث أي محتوى غير أخلاقي.
ويبدو أن شرطة مكافحة جرائم الإنترنت انتهت في «عنكبوت 1» من مراقبة مواقع التواصل الاجتماعي، وفي عام 2016 أعلنت عن «عنكبوت2» التي اعتقل خلالها العديد من الإيرانيين بتهمة «نشر الرذيلة، والتحريض على النمط الغربي، وبث محتوى ينافي قيم ومبادئ الجمهورية الإسلامية».
وقد صرح المتحدث الرسمي باسم مركز التحقيق في جرائم الإنترنت مصطفى علي زاده، أن المتهمين بنشر الفاحشة هم عارضات الأزياء، ومصورو الموضة، وصالونات التجميل التي تعاملت معهم، ووصل عددهم إلى 170 شخصًا، وأضاف أنهم روجوا للفساد، لكننا تمكنا من خلال نظام المراقبة الذكي أن نتوصل إليهم بعد مراقبة دامت لعامين.
ووفقًا لوكالة «إيرنا» الإخبارية فإن المتهمين سوف يحاكمون بناء على المادة 472 من قانون العقوبات الإيراني، والتي تجرم استخدام الإنترنت لنشر أي صور فاضحة، أو منافية لمبادئ الجمهورية الإسلامية في إيران.
عندما انتقد الجميع داخل وخارج إيران، بث التلفزيون الرسمي الإيراني اعترافات قسرية من مراهقات، لم تكن تلك هي المرة الأولى، ففي إطار حملات اعتقال الإيرانيين بعد مراقبة حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة في حملة عنكبوت 2، أذاع التلفزيون الإيراني اعترافات واحدة من عارضات الأزياء التي اعتقلت.
العارضة تدعى إلهام عرب، وهي عارضة أزياء شهيرة في إيران، وقد نشرت صورًا لها في أثناء إحدى جلسات التصوير بدون حجاب وملابس مكشوفة، وعند مثولها أمام المدعي العام للاعتراف بما اقترفته من أخطاء، سجلت تلك الاعترافات صوتًا وصورة.
بحسب المحامي الخاص بإلهام الذي رفض الكشف عن هويته، فإنها أجبرت على الظهور في أحد البرامج وإعلان ندمها وتوبتها، وأيضًا أجبرت على غلق جميع حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي.
أميري «اسم مستعار» يعمل في مجال حقوق الإنسان، وواحد ممن تعرضوا للاعتقال بسبب آرائه على مواقع التواصل الاجتماعي، يقول أميري لـ«ساسة بوست»، «في أحد الأيام كنت ذاهبًا إلى العمل وتم اعتقالي في الشارع، وعندما وصلت إلى مقر الشرطة علمت أن تهمتي هي التحدث عن معتقلين على مواقع التواصل الاجتماعي، وإثارة الفتن والشائعات». حكم بالسجن على أميري لمدة عام، والآن يخضع للمراقبة بعدما أغلق جميع حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنه بدأ يتحايل على الأمر باستخدام اسم مستعار، وما زال يخشى الاعتقال مجددًا.
حرب التليجرام
في ظل حجب النظام الإيراني جميع مواقع التواصل الاجتماعي، وأغلب تطبيقات المراسلة ظهر «التليجرام» طوق نجاة للإيرانيين، فأصبح تطبيق المراسلة الأكثر والأوسع انتشارًا؛ إذ رأى البعض أنه يتمتع بالأمان، إلى جانب السهولة والبساطة التي لا تحتاج لسرعة إنترنت فائقة، ومع توافر فكرة إنشاء قنوات على التطبيق كمنصات إعلامية سريعة، أصبح التطبيق المفضل لدى الإيرانيين.
وفي ظل سيطرة التيار المحافظ على وسائل الإعلام التقليدية في إيران، اتجه الإصلاحيون إلى «التليجرام» في عام 2013 للاستعانة به في الدعاية لمرشحهم حسن روحاني، ونجح «التليجرام» في تلك المهمة، ووصل عدد مستخدمي التطبيق في إيران إلى 40 مليون مستخدم.
وبدأت حرب السلطات الإيرانية ضد التليجرام من هنا، إذ اعتقل عدد من مسئولي بعض القنوات المحسوبين على التيار الإصلاحي، والتهمة كانت «إدارة قنوات تحرض على الفتنة». خلال تلك الفترة والتيار المحافظ يدعو ليلًا ونهارًا إلى حجب هذا التطبيق، يقول مهندس الاتصالات هاشمي إن السلطات الإيرانية «خاطبت مسئولي التليجرام مرارًا وتكرارًا لنقل خوادم البيانات داخل إيران، ولكن المسئولين لم يوافقوا”.
وفي أواخر عام 2017 عندما خرج الإيرانيون للاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، كان «التليجرام» هو الأداة الوحيدة لتناول المعلومات، وطلب النظام الإيراني من إدارة «التليجرام» أن يغلق القنوات التي «تحرض المتظاهرين على العنف»، وبعد وقت قصير صرح بافيل دوروف مؤسس «التليجرام» أنه حجبت بعض القنوات الفارسية التي تحرض على العنف، فيما رفض إغلاق القنوات الأخرى التي تساند المتظاهرين السلميين.
معركة التليجرام
بعد أن هدأت المظاهرات في إيران، رأى المسئولون والتيار المحافظ أنه آن الأوان لاتخاذ إجراءات جادة لحجب هذا التطبيق، وفي بداية شهر أبريل (نيسان) 2018 صرح علاء الدين بروجردي رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان بأنه لا بد من حجب التليجرام واستبدال تطبيق محلي به.
ورأى بروجردي أن «المعلومات التي يتم تداولها بين الإيرانيين عبر «التليجرام» مخترقة من قبل بريطانيا والولايات المتحدة وإسرائيل»، واتهم إدارة التطبيق أنها لا تحمي بيانات المستخدمين في إيران.
في البداية كان الرئيس الإيراني رافضًا لحجب «التليجرام»، فالرجل طالما دافع عن حق الإيرانيين في استخدام الإنترنت بكل حرية، وفي أثناء اجتماعه الشهري بحكومته صرح روحاني أنه يحبذ أن يستخدم الإيرانيون التطبيقات المحلية، وسيكون سعيدًا إن وثقوا بها، ولكنه لا يرى أن ذلك يستدعي حجب التطبيقات الأجنبية. وأوضح أنه لا يريد لأي تطبيق أن يحتكر استخدام الإيرانيين.
ويبدو أن تصريح روحاني أزعج بروجردي؛ فعلق قائلًا إن قرار حجب «التليجرام» اتخذ من أعلى مستوى في إيران، أي إن الأمر تجاوز موافقة أو رفض الرئيس روحاني.
في 9 أبريل 2018، أصدر المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي فتوى تقول: «يجب على إدارة البلاد أن تحرص على توفير الأمن والخصوصية للشعب الإيراني، وأن انتهاك خصوصية الإيرانيين من قبل الخارج أمر مرفوض وضد الشريعة الإسلامية”.
يرى “بهرام معتمدي الناشط الحقوقي أن النظام الإيراني حاول أن يقنع الإيرانيين بأن «التليجرام» غير آمن لذلك سيقوم بحجبه، فيقول لـ«ساسة بوست»: «تضحكني محاولات النظام في إقناع الناس أن التليجرام غير آمن، ويدعو لاستخدام التطبيقات المحلية التي تخضع لأشد أنواع المراقبة”.
خامنئي وروحاني على الخط
وكمرشد أعلى للبلاد أغلقت قناة خامنئي على التليجرام في 18 أبريل، وأعلن القائمون عليها أن الإغلاق بسبب كسر احتكار التليجرام في إيران، وتشجيعًا لاستخدامات التطبيقات المحلية.
ويبدو أن روحاني تراجع في موقفه بخصوص الحجب، وأعلنت إدارته أنه ستغلق جميع القنوات الخاصة بالوزارات والمصالح الحكومية على تطبيق «التليجرام»، امتثالًا للقواعد واللوائح في البلاد. وفي 30 أبريل 2018 كان التليجرام قد لفظ أنفاسه الأخيرة في إيران، وأعلنت السلطة القضائية حجبه تمامًا، وبذلك يكون الإيرانيون قد خسروا آخر منصة إعلامية حرة وآمنة.
التليجرام في إيران كان يستخدم في أغراض غير سياسية، مثل إنشاء بعض الأشخاص لقنوات خاصة بهم للترويج لمتاجرهم، أو بضائع يتاجرون بها بدون وجود متجر نظرًا لغلاء أسعار إيجارات المتاجر. حتى الأطباء وصالونات التجميل، والأندية الرياضية كانوا يستخدمونه للغرض نفسه، ويرى بعض المحللين داخل إيران أن التطبيق كان يوفر حوالي مليون فرصة عمل قضي عليها فجأة بقرار من القضاء.