الإدارية العليا: لا يجوز للمتعاقد الرجوع في التنازل الموثق إلا في هذه الحالة
قضت المحكمة الإدارية العليا الدائرة الثالثة، برئاسة المستشار أحمد منصور نائب رئيس مجلس الدولة، وعضوية المستشارين ناصر عبد القادر ونجم الدين عبد العظيم والدكتور محمد عبد الوهاب خفاجي وعبد النبي زاهر، ونواب رئيس مجلس الدولة بالغاء الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري، الصادر بإلزام محافظ الجيزة بتعويض أحد المقاولين بمبلغ 328 ألف جنيه، عن عدم تمكنه من تنفيذ عملية بناء إثنى عشر عمارة سكنية بنواحي مركز الصف، بسبب أن الأرض كانت زراعية لا يجوز البناء عليها والقضاء مجددا بإثبات ترك المدعي للخصومة ( أي التنازل عنها).
قالت المحكمة، إنه يقصد بترك الخصومة تنازل المدعي عن الخصومة أي تنازله عن مجموع الإجراءات، التي تمت في الدعوى، ويتحقق الترك بإعلان من التارك لخصمه على يد محضر أو ببيان صريح في مذكرة موقعة من التارك أو من وكيله مع إطلاع خصمه عليها أو بإبدائه شفوياً في الجلسة وإثباته في المحضر، والترك تصرف قانوني يشترط لصحته ما يشترط لصحة جميع التصرفات القانونية، فيجب أن تتجه إليه إرادة من قرر به وإلا انعدم أثره، والترك لا يجوز أن يكون مقروناً بأي شرط أو تحفظ من شأنه تمسك التارك بالخصومة أو بأي أثر من أثارها، والترك تصرف لا يجوز الرجوع فيه.
وأشارت المحكمة، أنه قد بات مسلماً في الفقه الإسلامي أن من تنازل عن حقه بإلغا مختارا غير مدلس عليه أنه لا يصح رجوعه، فالساقط لا يعود فإذا تقرر هذا فإن من أسقط حقاً من الحـقوق التي يجوز إسقاطها، يسقط ذلك الحق، وبعد إسقاطه لا يعـود، ولكن يشترط في إسقاطه ذلك الحق أن يكون عن رضا نفسٍ وبدون ضغطٍ أو إكراهٍ أو حياء.
وقد نصت القاعدة الفقهية على أن: "الساقط لا يعود" (المادة 51 من مجلة الأحكام)، وجاء في درر الحكام في شرحها: "الساقط لا يعود، يعني إذا أسقط شخصٌ حقاً من الحقوق التي يجوز له إسقاطُها يسقط ذلك الحق، وبعد إسقاطه لا يعود.
"لو كان لشخصٍ على آخر دينٌ" فأسقطه عن المدين، ثم بدا له رأيٌ فندم على إسقاطه الدين عن ذلك الرجل، فلأنه أسقط الدين، وهو من الحقوق التي يحق له أن يسقطها، فلا يجوز له أن يرجع إلى المدين ويطالبه بالدين؛ لأن ذمته برئت من الدين بإسقاط الدائن حقه فيه، أما لو أبرأ شخصٌ آخر من طريق له أو سيل أو كان له قطعة وأبرأه بها، فلا يسقط حقه بالطريق والمسيل والأرض؛ لأنه لا يسقط الحق بما ذكر بمجرد الترك والإعراض ويجب لإسقاط الحق فيها إجراء عقد بيعٍ أو هبةٍ مثلاً (درر الحكام شرح مجلة الأحكام1/89).
وذكرت المحكمة، أن المطعون ضده قام بتوثيق إقرار منه بترك الدعوى وهذا الإقرار يدخل في عموم صور التنازل الواردة بالمادة 141 من قانون مرافعات، ضمن مفهوم البيان الصريح في مذكرة موقعة من التارك أو من وكيله مع إطلاع خصمه عليها، فهذا الإقرار الموثق بالتنازل عن الدعوى لا يعدو أن يكون مذكرة موقعة من التارك اطلع عليها خصمه وقبلها، وهذا الفهم الدقيق هو ما تبنته محكمة النقض بقولها "متى كان إقرار الطاعن المصدق عليه بمكتب التوثيق والمقدم للمحكمة قد تضمن بياناً صريحاً بتركه الخصومة في الطعن فإن هذا الإقرار يقوم مقام المذكرة الموقع عليها منه التي تجيز المادة 308 من قانون المرافعات، إبداء ترك الخصومة ببيان صريح فيها.
كما يعتبر تقديم المطعون ضده لهذا الاقرار وتمسكه بما جاء فيه إقرارا منه بإطلاعه عليه وقبوله، ما جاء فيه من ترك الدعوى قبول ويتعين ترك الخصومة من الطاعن، على هذا الأساس ولما كان ذلك وكان الثابت بالأوراق أن الجهة الإدارية الطاعنة قدمت أصل الإقرار بتنازل المطعون ضده عن الدعوى بمكتب التوثيق المختص، ومن ثم كان ينبغي الاعتداد بهذا التنازل، دون الاعتداد برجوع المطعون ضده عن هذا التنازل باقرار لاحق له بإلغاء هذا التنازل، إذ أن هذا الرجوع يحتاج إلى موافقة الجهة الإدارية الطاعنة التي رفضته وتمسكت بإقرار التنازل الصادر من المطعون ضده بإرادته الحرة الواعية، والذى اكتملت أركانه وأضحى صحيحا ومنتجاً في ترك الدعوى بعد قبول الجهة الإدارية الطاعنة له، ومن ثم يكون الحكم المطعون فيه وقد قضى في موضوع الدعوى والالتفات عن تمسك الجهة الإدارية الطاعنة باقرار التنازل من المطعون ضده يكون مخالفا لحكم القانون واجب الإلغاء.
وأوضحت، "ولا يغير من هذا النظر ما ذكره المطعون ضده من بطلان تنازله عن الدعوى الموثق بالشهر العقاري"؛ استناداً إلى أنه وقع في تدليس من الجهة الإدارية تمثل في قيامها بوعده في الحصول على كل مستحقاته المالية مقابل تنازله عن الدعوى، فمثل ذلك القول مردود بأن المادة 125 من التقنين المدني تنص على أنه:
1 - يجوز إبطال العقد للتدليس إذا كانت الحيل التي لجأ إليها أحد المتعاقدين، أو نائب عنه، من الجسامة بحيث لولاها لما أبرم الطرف الثاني العقد.
2 - ويعتبر تدليسا السكوت عمدا عن واقعة أو ملابسة، إذا ثبت أن المدلس عليه ما كان ليبرم العقد لو علم بتلك الواقعة أو هذه الملابسة" واستقر الفقه والقضاء على أن الطرق الاحتيالية تنطوي على جانبين: جانب مادي هو الطرق المادية التي تستعمل للتأثير في إرادة الغير، وجانب معنوي هو نية التضليل للوصول إلى غرض غير مشروع.
فالطرق المادية لا تقتصر عادة على مجرد الكذب، بل كثيراً ما يصحب الكذب أعمال مادية تدعمه لإخفاء الحقيقة عن المتعاقد، ويجب أن تكون هذه الأعمال كافية للتضليل حسب حالة كل متعاقد، فالمعيار هنا ذاتي ولا يكفي مجرد المبالغة في القول ولو وصلت المبالغة إلى حد الكذب ما دام أن ذلك مألوف في التعامل، ولا يشترط في التدليس المدني أن تكون الطرق الاحتيالية مستقلة عن المكذب، قائمة بذاتها، كما يشترط ذلك في النصب الجنائي.
ففي بعض الأحوال يكفي الكذب ذاته طريقاً احتيالية في التدليس.
فالمهم إذن في الطرق الاحتيالية ليس إنها طرق مستقلة تقوم بذاتها لتسند الكذب، بل أن يكون المدلس قد ألبس على المتعاقد وجه الحق فحمله على التعاقد تضليلاً، واختار الطريق الذي يصلح لهذا الغرض بالنسبة إلى هذا المتعاقد.
وقد أجدبت الأوراق أن جهة الإدارة قد استخدمت طرقاً احتيالية على المطعون ضده لحمله على التنازل وجاء قوله من التدلس عليه مرسلاً من ثمة دليل يؤيده في عيون الأوراق مما يتعين معه طرح هذا القول.
واختتمت، أن المطعون ضده كان يعلم علم اليقين بمعاينته للأرض محل التعاقد أنها من عداد الأراضي الزراعية، بل وقبل نص البند التاسع من التعاقد بإلتزامه باتباع جميع القوانين واللوائح الحكومية والمحلية ذات الصلة بتنفيذ موضوع التعاقد، بما في ذلك استخراج الرخصة ومن المبادئ القانونية العريقة لا يعذر أحد بجهله بأحكام القانون.