د. نصار عبدالله يكتب: رد الاعتبار إلى الحمار "1"
لعلنا لا نتجاوز الحقيقة كثيرا إذا قلنا إن الكائن البشرى هو من أكثر الكائنات الحية فى هذا العالم ممارسة للظلم والعدوان، فهوالكائن الوحيد الذى كثيرا ما يسىء معاملة الطبيعة ذاتها فيلوثها أحيانا أويدمرها أحيانا أخرى، وهو الكائن الوحيد الذى كثيرا ما تدفعه مصالحه الأنانية إلى استغلال أو استعباد من يتوسم فيهم أنهم أقل منه قوة وقدرة على المواجهة، وهو كذك الكائن الوحيد القادر على تدبيج الأكاذيب وتدبير المؤامرات والمكائد لتحقيق الانتصار على أعدائه أو منافسيه، وأهم من هذا كله أنه كائن يتسم فى حالات معينة بالجحود والتنكر لفضل ذوى الفضل، أو على الأقل محاولته فى أغلب الأحيان للتقليل من قيمة فضل الآخرين إذا ما قورن بفضله هو !. ومن مظاهر هذا الجحود أن الإنسان يتنكر دائما لفضل الكثير من الكائنات الحية وفى مقدمتها ذلك الكائن الرائع: «الحمار» وهو فضل لولاه لما أمكن للكثير من الحضارات ومن بينها الحضارة المصرية القديمة (وربما الحديثة أيضا) أن تصل إلى المستوى الذى وصلت إليه!، والغريب فى هذا المجال أن الإنسان ينكر دائما أهم مزايا الحمار وفى مقدمتها ميزة الذكاء التى تؤكدها العديد من الشواهد والتى يعلمها الإنسان علم اليقين ، بل لقد وصل ظلم الإنسان للحمار فى هذا الخصوص إلى حد وصفه بالصفة النقيضة أى: «الغباوة» وجعله من صفة «الحمورية» صفة مرادفة للغباوة !!..ورغم ذلك كله فإن الأمانة تقتضى أن نشير إلى أن كل فرد من أفراد الجنس البشرى يمتلك حسا داخليا يحاول أن يدفعه إلى تجاوزهذه النقائص والارتقاء إلى مستوى من السلوك يسوده الحق والعدل والإنصاف، هذا الحس الذى سنطلق عليه مؤقتا وصف «الضمير الإنسانى» موجود بقدر معين لدى كل منا، لكنه تتوقد شعلته لدى نماذج بعينها من البشر أبرزها القديسون والمفكرون الإصلاحيون والمناضلون الثوريون الحقيقيون الذين عرفتهم البشرية على مدى تاريخها، وقد تزايد دورهم كثيرا فى العصور الحديثة نتيجة لانتشار التعليم وتزايد دور الثقاقة والمثقفين فى صياغة الوعى الإنسانى..نعود بعد هذه المقدمة اضطررنا إليها كتمهيد للولوج إلى الموضوع، نعود بعد هذه المقدمة إلى موضوعنا الذى سنتناوله فى السطور القادمة ونعنى به ما تعرض له الحمار تاريخيا من الظلم على يد الإنسان، فذلك الكائن الذكى الوفى الملتزم القنوع الذى ارتضى أن يكون معينا للإنسان على الحياة وعلى بناء الحضارة فى مقابل زهيد وهو أن يوفر الإنسان له طعامه وأن يوفر له قدرا من الحب والرعاية يتجلى فى السعادة البالغة التى تطرأ عليه عندما يطبطب صاحبه عليه أو يطعمه بيديه (بالمناسبة فى حالات كثيرة يصاب الحمار بالاكتئاب بعد موت صاحبه، ويرفض الطعام والشراب إلى حد قد يصل به أحيانا إلى الموت!)..وقد كانت المناسبة التى دفعتنا إلى الحديث عن الحمار هى صدور كتاب: «حكاية مصرية» للدكتور جودة عبدالخالق والدكتورة كريمة كريم، وهو الكتاب الذى تضمن فى صفحاته الأولى محاولة للانتصاف للحمار الذى ربما كان فى هذا السياق رمزا لإحدى القوى الفاعلة المنتجة فى الريف والتى كثيرا ما لا تلقى من القوى المسيطرة والمهيمنة (بنى الإنسان) إلا أقل الجزاء... وأحيانا شر الجزاء!، وهذا الانتصاف بطبيعة الحال، قد كتبه الدكتور جودة معبرا فيه عن منظوره الخاص الذى لا أظن أنه يتطابق مع منظور الدكتور كريمة سليلة البورجوازية العليا المولودة فى القاهرة والتى لا أظن أنها قد قدر لها أن تمتطى حمارا أو أن تتعامل مع حمار (اللهم إلا بالمعنى المجازى الشائع..والظالم أيضا !) فقد كان والدها محاميا وفديا وعضوا بمجلس الشيوخ لكنه تعرض للعزل السياسى وإقفال مكتبه بعد الصدام بين حكومة (الثورة) وحزب الوفد، ومن ثم فقد أصبح يتعيش على إيجار الأراضى الزراعية التى كان يملكها، والتى انخفض إيجارها فيما تذكر الدكتورة كريمة إلى مائة جنيه للفدان (أشك شكا كبيرا فى هذه القيمة التى ذكرتها الدكتورة كريمة، لأنه طبقا لقوانين الإصلاح الزراعى أصبح الحد الأقصى للإيجارات الزراعية هو سبعة أمثال الضريبة، وقد كانت الضريبة تتراوح فى ذلك الوقت مابين ثلاثة إلى خمسة جنيهات فى أغلب زمامات الأراضى المصرية فى الوادى والدلتا، وقد تصل الضريبة أحيانا إلى سبعة جنيهات فى الزمامات التى تتمتع بخصوبة استثنائية وبالتالى فقد أصبح إيجار الفدان اعتبارا من سبتمبر 1953 يتراوح مابين 21جنيها و35 جنيها فقط وقد يصل فى الزمامات المتميزة إلى ما يقرب من خمسين جنيها غير ما لم يكن المؤجر مخالفا للقانون) وهو ما يعنى بالتالى أن الدكتورة كريمة، قد بالغت فى تقدير قيمة الإيجار التى كان والدها يحصل عليها، أو أن والدها كان يحصل بالفعل على تلك القيمة الإيجارية ولكن بالمخالفة للقانون! وللحديث بقية.