نعمة الوقت
الوقت من أجَلِّ النعم التي منَّ الله تعالى بها على عباده، وأعطىٰ له أهمية خاصة، فهو أول ما يُسئل عنه العبد يوم القيامة؛ فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ" أخرجه الترمذي وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ " أخرجه البخاري.
ولذلك حثنا الإسلام على المحافظة على الوقت واغتنامه بما يكون من ورائه منفعة معتبرة شرعًا، سواءٌ كانت هذه المنفعة دينية أم دنيوية، ولا يُخِلُّ هذا بحق النفس في الترويح حتى لا تَمَلَّ وتتكاسل عن الطاعات، فعَنْ حَنْظَلَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَعَظَنَا، فَذَكرَ النَّارَ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ إِلَى الْبَيْتِ فَضَاحَكْتُ الصِّبْيَانَ وَلَاعَبْتُ الْمَرْأَةَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا تَذْكُرُ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ نَافَقَ حَنْظَلَةُ فَقَالَ: "مَهْ" فَحَدَّثْتُهُ بِالْحَدِيثِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا فَعَلَ، فَقَالَ: "يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، وَلَوْ كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كَمَا تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ، حَتَّى تُسَلِّمَ عَلَيْكُمْ فِي الطُّرُقِ" أخرجه مسلم.
ولا شك أن أيّ إنسان يحتاج إلى فترة من الراحة والاسترخاء والترويح عن النفس؛ ليجدد نشاطه مرة أخرى، وينفر من حر الصيف، ويكسر رتابة الأمور، لا سيما بعد عام مليء بالعمل والاجتهاد، سواءٌ كان في الدراسة أم العمل لتحصيل الرزق أم غير ذلك من الأعمال المباحة، ولكن ليس ثَمَّةَ تلازمٌ بين الترويح عن النفس وبين ارتكاب المحرمات، فلا تجعل هذه الحاجات المذكورة الحرامَ حلالًا، خاصة وأن الشخص قد يهيئ لنفسه الجو المناسب للترويح الجائز، ويتخير الأماكن المناسبة لذلك بعيدًا عن الاختلاط وكشف العورات.
فالتصييفُ -كغيره من المباحات- يجب أن يخلو من المحرمات ليبقى على إباحته، والدين حينما وضع ضوابط التصرفات لم يسعَ بذلك للكآبة وإنما يريد أن يقيم مجتمعًا فاضلًا، ووجود المتعة الظاهرية في الشيء لا تكفي ليصير حلالًا أو مقبولًا، بل كثير من المحرمات يزعم من يفعلونها أن بها منافع وتجلب لهم السعادة، والحق أن المُتَع إن وجدت فلحظية، تفوق أضرارها ما قد يجده الإنسان من ترويح واستمتاع.
ولا تجعل تصورك الخاص للسعادة الدنيوية عقبة في طريقك لله، فلا تَعَارُض أصلًا، بل اجمع بين الأمرين، واسعد في الدنيا، واعلم جيدًا أن سعادة الآخرة خير وأبقى. قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْك..} [القصص: 77].
فلا يلزم من الخروج للمصيف كشف العورات والاختلاط وإطلاق النظر فيما حرم الله تعالى، والاستماع إلى المحرم من الأغاني، والتمايل والتراقص وما إلى ذلك من محظورات، ولا تستصغرن معصية، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ" أخرجه أحمد في مُسنده.
وقد يتناسى البعض حرمة ما يحدث في كثير من الشواطئ والنوادي والمتنزهات من اختلاط وخلاعات وسفاهات، ويتساهلون في فعلها لكونها أصبحت من عوائد أكثر الناس والشباب، فنقول لهم: إن اجتماع أكثر الناس واتفاقهم على فعل المحرمات لا يصيِّرها حلالًا، فالمؤمن حقًا لا يغتر بانتشار المنكرات وشيوعها بين الناس، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 116، 117].
وعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلاَ تَظْلِمُوا" أخرجه الترمذي.
ولذلك فالصيف والإجازة ليسا وقتًا مستثنًى من طاعة الله تعالى، بل هو أدعى أن يغتنمه الشخص في ما ينفعه دينيًّا ودنيويًّا، قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
نسأل المولى عز وجل أن يقيَ المسلمين شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
علي أحمد رأفت
عضو مركز الأزهر العالمي للفتوىٰ الإلكترونية