د. نصار عبدالله يكتب: مكتبة رفاعة بسوهاج: هل تنكرت لروح رفاعة؟.
ماذا لو تقدم عبدالسلام هارون شيخ المحققين فى القرن العشرين إلى مكتبة رفاعة بسوهاج يطلب الاطلاع على مخطوطة بها، والسماح له بتصويرها مع استعداده لتوريد الرسوم المطلوبة للتصوير؟ وماذا لو تقدم الشيخ محمود محمد شاكر الذى لا يقل مكانة عن عبدالسلام هارون بل ربما زاد عليه إبداعه الشعرى والنقدى، ماذا لو تقدم وهو من هو بطلب مماثل؟ السؤال السابق افتراضى بالطبع لأن عبدالسلام هارون ومحمود شاكر كليهما قد انتقلا إلى رحمة الله، أما الإجابة فهى ليست افتراضية على الإطلاق بل إنها معلومة لكل من قدر له أن يتقدم بمثل هذا الطلب إلى الإدارة الراهنة للمكتبة.. إنها سوف ترفضه على وجه اليقين!، والسبب فى ذلك يتمثل فى أن أيا منهما (هارون وشاكر) لم يسبق له أن قيد فى الدراسات العليا لأية جامعة وبالتالى فإنه لن يكون بوسعه تقديم خطاب أو شهادة تفيد بأنه مقيد حاليا لنيل درجة الماجستير أو الدكتوراة وأن موضوع رسالته يرتبط بالمخطوطة المراد تصويرها وهذا هو الشرط الذى تشترطه إدارة المكتبة حاليا ولا ترتضى بسواه بديلا!!.. وبما أن عبدالسلام هارون كان مجرد مدرس بالمرحلة الإلزمية «الابتدائية» عندما حقق شهرته المدوية فى مجال تحقيق المخطوطات، وبما أن الشيخ شاكر لم يكمل تعليمه فى الجامعة أصلا إذ إنه تركها قبل أن يكمل السنة الدراسية الأولى! «وذلك بعدما تبين له بوضوح أن ما لديه من العلم يفوق بكثير ما لدى الأساتذة الذين يدرسون بها!!».. بما أن ذلك كذلك، فمن المؤكد أن مكتبة رفاعة فى سوهاج لن تسمح لأى منهما بالاطلاع والتصوير أو حتى بمجرد اللمس!، لأن تكرار لمس المخطوطة وتقليب صفحاتها قد يؤدى إلى تلفها!.. وهذا هو الأقل ما تلتزم به إدارتها الراهنة بغض النظر عما عساه كان متبعا قبل ذلك فى هذ الشأن، خاصة أن المكتبة تنفرد بأن من بين مخطوطاتها ما لا يوجد فى غيرها من مكتبات العالم بأسره!.. لست واثقا تماما إن كان هذا الحرص الشديد راجعا إلى تعليمات من الإدارة المركزية فى القاهرة «الدكتور هشام عزمى حاليا» أم أنه راجع إلى مبادرة شخصية من الإدارة المباشرة فى سوهاج «الأستاذ خلف سعدالله»، لكن من المؤكد فيما أتصور أن مثل هذا المسلك يمثل نوعا من البيروقراطية الخانقة التى تعوق البحث فى مجال التراث وتقصره فقط على المقيدين الراهنين لنيل درجة الماجستير والدكتوراة فى موضوعات بعينها، وتستبعد من هم سواهم،.. وبالتالى فهى تستبعد سائر المهتمين بالتراث ممن هم خارج إطار الدوائر الأكاديمية الرسمية التقليدية.. هنا قد يكون من المناسب أن نذكر قراءنا الأعزاء بأن رفاعة رافع الطهطاوى نفسه «الذى تحمل المكتبة اسمه»، قد قدم إنجازاته من خارج الإطار الأكاديمى الرسمى!، إذ إنه لم يكن من بين أعضاء البعثة التى أرسلها محمد على باشا للدراسة فى فرنسا عام 1826 بل كان كما هو معروف مجرد إمام للبعثة وواعظ لطلابها، لكن هذا لم يحل بينه وبين الدراسة وتجاوز الإطار المحدد الذى أرسل من أجله دون أن يواجه فى هذا المجال اعتراضا من القائمين على البعثة، بل على العكس وجد منهم الترحيب والتشجيع.. (هل من حقنا والحال كذلك أن نقول بأن إدارة مكتبة رفاعة تتنكر لروح رفاعة؟..أم لعل الفارق يكمن فى أن المناخ العام الذى كان سائدا فى عصر محمد على هو مناخ البناء لدولة حديثة فى حين أن المناخ الذى أصبح سائدا فى العقود الأخيرة، ربما أصبح هو مناخ التآكل والتداعى لمقومات تلك الدولة؟)..أيا ما كان التشخيص والتوصيف المناسب للبيروقراطية المصرية الراهنة، فإننا نعود إلى المشكلة المحددة التى تطرقنا إليها فى بداية المقال وأعنى بها عدم السماح للباحثين غير المقيدين بالدراسات العليا بالاطلاع على المخطوطات وتصويرها خوفا عليها من التلف، نعود إلى تلك المشكلة لنقول إنه حتى مع تسليمنا بمشروعية مخاوف الإدارة البيروقراطية من احتمال تلف المخطوطات نتيجة لتكرار الاطلاع والتصوير، فإن هذه المشكلة يمكن حلها ببساطة من خلال رقمنة المخطوطات وحفظها على هيئة نسخ إلكترونية غير قابلة للتلف،.. وإلى أن تتم عملية الرقمنة يمكن اللجوء إلى حل بديل مؤقت هو تحميل أول باحث يطلب الاطلاع على مخطوطة وتصويرها، تحميله تكلفة تصوير نسخة إضافية من المخطوطة، وهذه النسخة الإضافية هى التى يمكن استخدامها فى حالة تكرار طلب الاطلاع والتصوير، والاقتراح الأخير نتقدم به بداهة إلى الدكتور هشام عزمى لعله يجد لدى سيادته أذنا صاغية.