رامي المتولي يكتب: أخطاء تاريخية لعهد "عبدالناصر" فى مسلسل "ملكة بريطانيا"

مقالات الرأي



66 عاما قضتها الملكة إليزابيث الثانية كرمز على رأس النظام الحاكم فى المملكة المتحدة ودول الكومنولث وبحكم مولدها فى أوائل القرن العشرين تحديدًا عام 1926 ويجعلها واحدة من المعاصرين الأحياء عن قرب لأهم وأكثر الأحداث والشخصيات المؤثرة فى تاريخ البشرية.

بداية من التحول الدرامى بعد تنازل عمها الملك إدوارد الثامن عن العرش ليتزوج من سيدة أمريكية مطلقة فى وقت عصيب من صعود الرايخ الثالث النازى وهيمنته على أوروبا هو الأمر الذى وضع أخيه ألبرت -فيما بعد الملك جورج الخامس- على العرش عام 1936 وبالتالى أصبحت أكبر بناته إليزابيث هى ولية العهد وعمرها تقريبًأ عشر سنوات الأمر الذى استوجب أن تنال تعليما خاصا ومكثفا فى الدستور وفروع اخرى متعلقة بما تحتاجه لتكون ملكة المستقبل.

عاصرت إليزابيث هذه التحولات فى القصر وفى هذا التوقيت العصيب فى أوروبا وكانت واعية خلال الحرب العالمية الثانية وكانت تؤدى مهام رسمية خدمية، مع وفاة والدها وهى بعمر الـ26 أصبحت هى المسئولة عن العائلة الملكية، ومن وقتها وحتى الآن هى الرمز البريطانى الأكثر تبجيلًا منذ 66 عاما وهى فترة حكمها.

التاج البريطانى هو واحد من أقدم الملكيات فى العالم، عالمه غامض ومقيد بالعادات والتقاليد والموروثات كل خطوة وهمسة لها حساباتها، ربما يظن البعض أن الأمور سهلة وهى ليست سوى مجموعة من المراسم تتم وسط بهرجة مبالغ فى تقديرها لكن العكس هو الصحيح، مسلسل The Crown يدخل إلى هذا العالم الغامض ويمنح المشاهد صورة متخيلة عما يحدث فى أروقة القصر وكيف يتم اتخاذ القرار وكيف يكون للمملكة دور فاعل من عدمه، بالطبع العديد من الأحداث والتفاصيل الصغيرة المتعلقة بالحوار وتفاعلات الشخصيات غير حقيقية أو لو شئنا الدقة لسنا متأكدين أنها حدثت بنفس الشكل والحوار لكنها جاءت بناء على أحداث حقيقية معروفة وعند ربطها بالقواعد المعلنة التى تسير الملكية البريطانية تحت مظلتها يمكن تخيل ما الذى يحدث فى القصر.

هذه الأحداث كثيرة فى حياة الملكة وربما يكون أبرزها صعود نجم الزعيم جمال عبدالناصر وتأميم قناة السويس وحرب 1956، ظهور ناصر فى المسلسل جاء ما بين حلقات نهاية الموسم الأول وبداية الموسم الثانى، الدقة التاريخية فيما يتعلق بالملابس واللهجة وشكل الحياة فى مصر لم يكن فى الحسبان كمثال ملابس ناصر العسكرية كانت مزينة بالتاج الملكى المصرى وحديث الممثل الذى قام بدوره فى المسلسل ويدعى أمير بطرس كان خليطا بين الفصحى والعامية المصرية بلكنة واضحة فى حديثه، حتى الملابس التى ارتدتها المجاميع فى مشاهد حرب 56 سواء من الجيش أو الشعب المصرى تعكس النظرة السائدة غير الصحيحة لحد كبير عن المصريين، لكن هذه التفاصيل لا تهم صناع المسلسل كثيرًا قدر ما يهمهم تجسيد المشاعر والانفعالات وراء القرارات والتفاعلات، حيث يرسم المسلسل الحكام كبشر لا كطبقة أعلى سامية، وعليه يظهر عبدالناصر معتدًا بنفسه يملك الكثير من السلطة والقوة والقدرة على المناورة سياسيًا كما لم يخفى صناعه العداء بين رئيس وزراء بريطانيا أنطونى إيدن وبين الرئيس المصرى وأرجعوه لسوء فهم من ناصر فى البداية ثم تحول الأمر بسبب غطرسة إيدن فى التعامل مع ناصر ونظرته له وكأنه موسولينى آخر وعدم إدراكه أن الأوضاع تتغير حوله وأن سيطرة وهيمنة الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس تضعف، لذلك وخلافًا للسياسة المقرر تطبيقها وهى الحفاظ على علاقات متينة بين بريطانيا والدول المستقلة عنها والحفاظ على القاعدة العسكرية البريطانية فى منطقة القنال، ذهب إيدن إلى ما هو أبعد وجر الملكة والبرلمان لحرب خسرت بسببها بريطانيا الكثير.

المسلسل يعتمد بشكل أو بآخر على الأحداث المعلنة الموثقة ليرسم التفاصيل الدقيقة للانفعالات والصراعات، فى صراع إيدن/ ناصر لم يتوان صناع المسلسل فى أن يظهروا رئيس الوزراء البريطانى أرعن يقوده غضبه وغروره يتآمر بمساعدة فرنسا وإسرائيل على الهجوم على مصر، ولم يغفل عن إظهاره مدمنا على المسكنات والمخدرات وكيف أثر ذلك على قراراته وأحكامه السياسية فنهاية الموسم الأول كانت مخصصة له وهو يتابع أخبار صعود ناصر عن طريق آلة العرض السينمائى فى مكتبه بعد أن يأمر الموجودين فى الغرفة بالانصراف يخرج هو علبة معدنية تضم حقنة وسائل يبدو أنه مورفين يحقن به رئيس الوزراء نفسه ليذهب فى غياب تام عن الوعى لدرجة أن الشريط السينمائى ينتهى عرضه ويحترق دون أن يوليه هو اهتمام لغيابه عن الوعى بما حوله وينتهى المشهد بصورة ناصر تحترق على الشاشة فى إشارة سينمائية ذكية لخطورة الوضع الذى سيؤدى به فى النهاية إلى خسارة منصبه السياسى وخروجه ذليلًا بالإضافة لتعنيف الملكة له.

الكثير من هذه التفاصيل الذاتية التى تكشف الضعف الإنسانى وكيف تتسبب مشاعر إنسانية قد تمر مرور الكرام فى الكثير من التفاصيل الحياتية العادية إلى كوارث فى حياة الحكام ولا تمر بنفس السهولة بل يمتد تأثيرها بشكل دائرى يتسع مداها كلما مر وقت على عكس ما يحدث فى حياة البشر العاديين والذى يؤدى عادة مرور الوقت إلى نسيانها أو إيجاد وسيلة للتصالح معها، لقاء إليزابيث الثانية مع جاكلين كيندى هو حدث آخر يبرزه المسلسل، الملكة التى تعاطفت مع جاكلين على الرغم من انطباعها الأولى بكراهيتها إلا أن بعض الجمل المتناثرة المهينة للملكة التى نطقت بها جاكلين فى عشاء غير رسمى لاحق دفع الملكة بتخطى كل الحدود وزيارة غانا المستقلة عن بريطانيا وتتعامل بندية مع الرئيس كوامى نكروما فقط لتكسبه سياسيًا وتبعده عن الشراكة مع الاتحاد السوفيتى وقتها، المسلسل رسم تفاصيل إنسانية للملكة وصراعها النفسى فى محاولة للتفوق على سطوة وتأثير جاكلين كيندى، وبعد عودتها من رحلتها موفقة وعلى الرغم من التأثير السلبى لكلمات جاكلين إلا أنها وافقت على تناول الغذاء معها وقابلتها فى المرة الثانية فى قلعتها وسط جنودها وبكامل هيمنتها كملكة متوجة من أسرة عريقة لتكتشف أن جاكلين كانت واقعة تحت تأثير مخدر وهى تتحدث بهذه الطريقة وأن خلافات زوجية بينها وبين الرئيس الأمريكى نشبت بسبب تألقها واهتمام الصحافة والمجتمع الأرستقراطى البريطانى بها أكثر منه.

وعلى هذه الشاكلة المئات من التفاصيل الصغيرة التى ستغير بالتأكيد من وجهة النظر تجاه هذه السيدة صغيرة الحجم والتى تملك حزما وكياسة تجعلها واحدة من أقوى الحكام فى العالم حتى ولو كان ظاهريًا أنها تحكم وأنها مجرد ملكة دستورية فى كيان ضخم يعتمد على رؤساء الوزراء لإدارته ولكن فى الحقيقة قادرة على التعامل مع هؤلاء السياسيين الأذكياء وتفوقهم أيضًا بكل خبرتهم، وكذلك فى قراراتها التى تمس زوجها وأختها ووالدتها، الكثير من التفاصيل الإنسانية يفتح لها المسلسل ربما للمرة الأولى التى يدرك معها المشاهد أن الملكة تتعامل مع عبء ضخم وثقيل بكفاءة.