د. نصار عبدالله يكتب: عن رحيل المتعبد لله بحب الوطن "3"
فى شهر شعبان الماضى وقبل أيام من حلول شهر رمضان المبارك، رحل عن عالمنا المناضل الوطنى خالد محيى الدين، أحد أبرز الأعضاء فى تنظيم الضباط الأحرار، ذلك التنظيم الذى تمكن بقيادة جمال عبدالناصر من الإطاحة بالحكم الملكى والاستيلاء على السلطة فى مصر فى يوليو 1952، ومحيى الدين فى نفس الوقت من أكثر قيادات ذلك التنظيم انحيازا إلى قضايا الفقراء والكادحين، وهو ما أهله بعد ذلك لكى يصبح فى عهد الرئيس أنور السادات رئيسا لمنبر اليسار الذى تحول بعد ذلك إلى حزب التجمع التقدمى الوحدوى.. والواقع أن نشأة خالد محيى الدين فى بيئة صوفية تنتمى إلى الطريقة النقشبندية جعلته فى وقت مبكر من حياته يهتدى إلى حل بسيط وحاسم لتلك المعادلة الصعبة التى كثيرا ما يواجهها الثوريون التقدميون الذين يجمعون بين التوجه الثورى وبين الجذورالإيمانية المتجذرة فى وجدانهم!، ألا وهى كيف تكون مناضلا ثوريا تسعى إلى تغيير خريطة القوى الاجتماعية لصالح الفقراء والكادحين وأن تظل فى نفس الوقت مبقيا على صلتك الروحية بالله متعبدا إياه!، والحل الذى اهتدى إليه خالد محيى الدين كان مستمدا من الطريقة النقشبندية ذاتها ومن الممارسات العملية للكثيرين من أتباعها وعلى رأسهم الدرويش النقشبندى عثمان أفندى الذى عرفه محيى الدين فى باكورة حياته والذى كان يؤمن إيمانا عميقا بأن محبة الإنسان لله إنما تتجلى فى محبته لعباده ومن ثم فقد كان يفنى نفسه فى خدمة الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلا، معتبرا تلك الخدمة نوعا من التعبد بل إنها جوهر التعبد فى أخلص صوره وأنقاها طالما أن المرء لا يسأل ولا ينتظر من عباد الله مقابلا لما أعطاه، وبالإضافة إلى عثمان أفندى الذى عرفه محيى الدين قبل التحاقه بالقوات المسلحة، فقد كانت هناك شخصيتان أخريان أثرتا على حياته تأثيرا كبيرا بعد أن التحق بها وأصبح ضابطا بسلاح الفرسان (المدرعات)، ألا وهما :عثمان فوزى وحسن عزت، أما عثمان فوزى فقد كان بمثابة القيادة الروحية والفكرية التى تلتقى حولها مجموعة من ضباط الفرسان الذين يبحثون عن طريق لخلاص مصر من نير التحكم البريطانى فى شئونها الداخلية والوصول بها إلى مرحلة الاستقلال الكامل وليس ذلك الاستقلال الصورى الذى تحقق بمقتضى تصريح فبراير 1922 أو ذلك الاستقلال الزائف الذى عبرت عنه معاهدة 1936 والذى وصفها الزعيم مصطفى النحاس وصفا فى غير محله بأنها معاهدة الاستقلال والشرف !!..كان عثمان فوزى قارئا نهما، وكان دائم التوجيه للضباط الذين يتحلقون حوله بأن يقرأوا ما يستطيعون قراءته عن الأنظمة والمذاهب السياسية المختلفة لعلهم بذلك قد يعثرون على أجوبة للأسئلة التى تشغل بالهم عن معنى تلك المصطلحات التى بدأت تتردد فى الساحة الفكرية المصرية كالرأسمالية والفاشية والاشتراكية وما إلى ذلك من المصطلحات التى كانت تبدو للكثيرين من الضباط كأنها ألغاز، وإلى الضابط عثمان فوزى يرجع الفضل فى توجيه خالد محيى الدين إلى القراءة المنظمة ذات الأهداف المحددة، وكما يعترف محيى الدين نفسه فى كتابه: «الآن أتكلم»، فإن عثمان فوزى هو الذى أكسب قراءاته الطالع العلمى والمنهجى، أما الشخصية الأخرى التى تأثر بها خالد محيى الدين فهى شخصية: حسن عزت الذى كان يتفجر محبة لمصر وإحساسا بعظمتها، وحقها فى الاستقلال، وفى أن تصبح دولة عظمى.. وبالإضافة إلى هذه الشخصيات الثلاث كانت هناك شخصية رابعة تزاملوا معها وعرفوا فيها الطهارة والنقاء والرغبة فى العلم والاطلاع على كل جديد، وهذه الشخصية الرابعة هى شخصية ثروت عكاشة الذى لعب فيما بعد دورا كبيرا فى إحداث طفرة ثقافية هائلة فى مصر عندما تولى منصب وزيرالثقافة، وفى عام 1944شهدت مصر حدثا جللا ملأ نفوس الضباط المصريين بل ملأ نفوس الشعب المصرى بأكمله بالغضب، عندما قامت الدبابات البريطانية بمحاصرة قصر عابدين، ووجه السفير البريطانى إلى الملك إنذارا بضرورة تكليف مصطفى النحاس بتشكيل الوزارة قبل حلول الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم، وإلا فإن الملك سوف يتحمل العواقب،.. لم يكن الضباط المصريون يحبون الملك، بل على العكس من ذلك كان الكثيرون يشعرون بالاستياء الشديد من الكثير من تصرفاته العامة والشخصية، ومع هذا فقد كانوا جميعا يعتبرونه فى النهاية رمزا للبلاد، ومن ثم فإن معاملته من جانب الإنجليز على هذا النحو ينطوى على تدخل سافر فى الشئون الداخلية للوطن وهو ما يعد فى نهاية المطاف إهانة بالغة للوطن ذاته، وفى ذلك العام 1944جاء الضابط عبدالمنعم عبدالرؤوف إلى خالد محيى الدين وقال له: تعال سأعرفك بضابط يجب أن تتعرف عليه.. .وهكذا التقى محيى الدين لأول مرة بجمال عبدالناصر.. وللحديث بقية.