د. نصار عبدالله يكتب: السودان والمهدى والنجومى
موقعة "توشكى" والتى تكتب أحيانا: «توشكا» هى أحد المواقع المهمة فى التاريخ المصرى والسودانى فى آن واحد، فقد كانت تلك الموقعة التى شهدها شهر أغسطس عام 1889، كانت هى بداية النهاية لذلك المد الكاسح الذى فجّره واحد من أبرز الدعاة الدينيين والسياسيين فى التاريخ المصرى السودانى الحديث ممن امتزجت الحقيقة لديهم بالوهم، وتعانق الواقع عندهم مع الأسطورة، واختلط الممكن على أيديهم بالمستحيل!!
ذلك هو محمد أحمد الدنقلى الذى عرف بعد ذلك بالمهدى والذى كان يقول بأن النبى، صلى الله عليه وسـلم، على اتصال مباشر به، وأنه قد بشره بأنه سيفتح مكة، كما سيفتح المدينة والقدس، ثم يموت بعد ذلــك بعمر طويل فى الكوفة! وقد قاد المهدى ثورة عارمة قدر لها أن تحقق نجاحـا ملموسا ضد الوجود المصرى فى السودان، غـير أن إصابته بحمّى التيفوس أجهضت آماله العريضـــة ففارق الحياة قبل أن يحــكم قبضته حتى على كل ربوع السودان، وعندئذ تولـى زمام الأمور من بعده خليــفته عبدالله التعايشى وهو من أسوأ الحكام الطغاة الذين شهدتهم السودان، ربما على مدى تاريخها كله! وقـد حلم التعايشى بتحقيــق جانب من الطموحات السياسية للمهدى لكنه سرعان ما أدرك استحالة تحقيق هذه الأحلام وفى مقدمتها فتح مكة، حينئذ تفتق ذهنه عن بدعة غريبة أوبالأحرى ليست غريبة على حاكم مثله حيث قام ببناء قبة فوق قبة المهدى بأم درمان، وألزم السودانيين بالحج إليها بدلا من الحـج إلى بيت الله الحرام! غير أن هذه الدعوة الغريبة للحج إلى قبة المهدى لم تلقَ قبولا لدى غالبية أبناء الشعب السودانى المؤمن إيمانا عميقا بعقيدته الإسلامية وتعاليمها وشعائرها المتوارثة عبر الإجيال، والذى لم يصدق قط أن تلك القبة المهدوية يمكن أن تكون بديلا لبيت الله الحرام! وأقل ما يمكن أن يقال عن مثل هذه البدعة إنها واحدة من نزوات الحكام، أو واحدة من حماقاتهم، وما أكثر ما يرتكبه الحكام الطغاة خاصة عندما يقوى سلطانهم ويشتد جبروتهم ما أكثر ما يرتكبونه من بدع ونزوات وحماقات، ما يعجل فى نهاية المطاف بانكسارهم! ومع هذا فإن تلك الحماقة التى ارتكبها عبدالله التعايشى، لم تكن رغم شناعتها هى وحدها التى عجلت بانكساره، فقد ارتكب فى الحقيقة غلطة عمره عندما فكر فى غزو مصر! وتجاوز مرحلة التفكير إلى مرحلة التنفيذ فسيّر إليها حملة بقيـادة عبدالرحمن النجومى، متصورا أن تلك الحملة سوف تمهد أمامه الطريق لكى يصبح خليفة على مصر والسودان، وبخلافته على الجزء الإسلامى من وادى النيل سوف يصبح الطريق أمامه ممهدا لكى يكون بعد ذلك خليفة على كل بلاد المسلمين! وفى 3 أغسطـس 1889 التقت تلك الحملة بقوة الدفاع المصرية التى كانت مكونة من 3685 مقاتلا أغلبهم من الجنـــود المصريين، وإن كان من بينهم فى الوقت ذاته عدد كبير من الجنود السودانيين الذين هربوا من جيش النجومى وانضموا إلـى إخوانهم المصريين، كما كان من بينهم كذلك عدد من الجنود الإنجليز (حيث حرصت إنـجلترا كعادتها أن يكون لها تمثيل ولو رمزيا فى المعركة على نحو تتحمل معه أقل قدر ممكن من الغرم لكى يكون لها فـى النهاية أكبر قدر ممكن من الغنم)، وقد استطاعت القوة المصرية المكونة من أقل أربعة آلاف مقاتل، استطاعت أن توقع هزيمة ساحقة بقوات عبدالرحمن النجومى التى كانت تفوقها أضعافا مضاعفة فى العدد، حيث قتلت منها 1200، (وكان من بين القتلى عبدالرحمن النجــومى نفسه)، كما أسرت 4000 كان من بينهم أحد أبنائه، وهو عبدالله عبدالرحمن النجومى الذى انضم إلى الخدمة فى القوات المسلحة المصرية0 وترقى فيها إلى رتبة اللواء، وفيما بعد أصبح ياورا خاصا للملك فاروق ومنح لقب : «باشا»، لكنه بعد ذلك انحاز إلى ثورة يوليو وأصبح واحدا من الرتب القليلة العالية التى قبلت أن تنحاز إلى ثورة يوليو، حتى قبل أن يتأكد انصارها شأنه فى ذلك شأن اللواء محمد نجيب نفسه . وقد كانت معركة توشكى هى بداية الطريق إلى إسقاط أكاذيب عبدالله التعايشى، وأشنع تلك الأكاذيب هى ما زعمه من أن الحج إلى القبة التى بناها بأم درمان بديل عن الحج إلى بيت الله الحرام.