د. نصار عبدالله يكتب: عن رحيل مكاوى سعيد
مازلت حتى الآن غير قادر على أن أصدق أن مكاوى سعيد قد رحل!.. سمعت الخبر بأذنى يوم السبت الماضى وهو يتصدر نشرة المصرى اليوم التى تذاع من قناة »القاهرة والناس«، لكننى ما زلت إلى الآن عاجزا عن التصديق، فقبلها بيوم واحد كنت معه فى حوار طويل كعادتنا عبر الهاتف المحمول.. مكاوى سعيد واحد من الأصدقاء القليلين الذين ظللت، أحرص على التواصل معهم، ويحرصون هم على التواصل معى هاتفيا بشكل منتظم بعد أن أصبحت ظروفى الصحية لا تسمح لى بالسفر إلى القاهرة حيث كنت ألتقى بهم فى ندواتها الأدبية أو فى جلساتنا التى كان يجتمع فيها لفيف من عاشقى الفن والثقافة والتى يطول فيها السمر على مقهى »البستان« أو كافيه »ريش« أو »ألجريون«...مكاوى سعيد مبدع استثنائى قادر على أن يشدك إلى إبداعه أيا ما كان الشكل الذى يصب فيه هذا الإبداع: قصة قصيرة أم رواية، فيلما تسجيليا أم مقالا، أم حتى نصا يصعب تصنيفه ضمن نوع بذاته من أنواع الإبداع الأدبى، لكنه رغم كل شىء يظل عملا مكتملا قادرا على التأثير الأخاذ وقادرا على إنتاج الدلالة، وإلى ذلك النوع الأخير الذى يعز على التصنيف ينتمى عمله الفريد: »مقتنيات وسط البلد«، والذى يلعب فيه وسط القاهرة دور البطل حيث يقدم لنا لوحات حية عن نماذج بشرية ارتبطت به بشكل أو بآخر من خلال مواقف ذات شحنة درامية مؤثرة، بعضها يخفيه المؤلف بغلالة رقيقة لا تحول بيننا وبين التعرف على هويته الحقيقية، فى حين أن البعض الآخر يقدمه لنا مكاوى سعيد باسمه الحقيقى، وهكذا نتجول معه من ميدان التحرير حيث كان مقهى المثقفين الشهير: »إيزائيفتش« الذى كان يمتلكه يوغوسلافى من معارضى تيتو، و قريبا منه فى جانب آخر من الميدان مقهى »على بابا« الذى اقترن بأكثر من لوحة من لوحات الكتاب، وبعده بقليل وعلى ناصية شارع محمد محمود يقع مقهى »أسترا« الذى كان فى نهاية الستينيات وحتى منتصف الثمانينيات منتدى ثقافيا حقيقيا، حيث شهد مولد ما عرف بمسرح القهوة على يد عبدالرحمن أبو زهرة وعبدالرحمن عرنوس وعبدالعزيز مخيون، وفى ساحته غنى محمد نوح للشاعر إبراهيم رضوان: مدد مدد/ شدى حيلك يابلد، فى أعقاب النكسة، وفى أركانه كان القاص يحيى الطاهر عبدالله يتلو قصصه على السامعين إذ أنه كان يحفظها عن ظهر قلب، وفى جانب من جوانبه تجلس مجموعة السينما الجديدة وعلى رأسها الناقد سامى السلامونى وفتحى فرج وسمير فريد وعلى أبوشادى...، وقد كان العصر الذهبى المكان كما يقول المؤلف هو ما بين عامى 1975و1985، ثم تدهورت خدماته وبيع لمجموعة من المستثمرين أقاموا بدلا منه محلا للبيتزا ومكتبا سياحيا لإحدى شركات الطيران، وقد كان ما حاق بأسترا جزءا مما حاق بمصر بأكملها، أى أن مكاوى سعيد يروى لنا ببراعته الفنية الفريدة، لا ما طرأ على ذلك المكان فحسب من التحولات، ولكنه يقدم لنا موجزا لما طرأ على المجتمع بأكمله.. أعود مرة أخرى إلى ذلك الخبر الصادم الذى سمعته فى نشرة أخبار قناة القاهرة والناس والذى ما زلت حتى هذه اللحظة غير قادر على استيعابه.. إذن فحينما يرن الموبايل لن أسمع صوته مرة أخرى كما سمعته فى اليوم السابق مباشرة وهو يقول: إيه ما عجبكش المقال الأخير ولا إيه؟ أقول بالعكس عجبنى جدا، يقول أصلك ما اتصلتش، فأنا تصورت إن المقال لم يحز الإعجاب، ولهذا لم تتصل..أقول له: بصدق شديد وبدون مجاملة.. لا يوجد حتى الآن مقال لمكاوى سعيد لم يعجبنى.. وبدون مبالغة سوف أسمح لنفسى بأن أضيف: لا يوجد عمل مكاوى من أى نوع لم يعجبنى.. الفارق فى كل حالة هو درجة الإعجاب، أما الإعجاب نفسه فهو قائم دائما، ولعلك تذكر أنى سجلت هذا الرأى فى إحدى المقالات التى كتبتها عن أعمالك، لأنى أعتقد أن كلام التليفون لا يكفى، خاصة إذا كان فى صالح المبدع لأنه قد يحمله على محمل المجاملة، ومن الوارد جدا عندما يحاصرك مبدع فى التليفون، من الوارد جدا أن تفك عن نفسك الحصار بكلمة مجاملة لا تعنى شيئا، لأنها لم يسمعها ولم يقرأها أحد، أما ما تنشره فهو محسوب فى النهاية عليك، لهذا فأنا فى كل ما كتبت لم أذكر قط مبدعا بالخير إلا إذا كان فى رأيى يستحق ذلك، قال: حتى لو كان المقال عرضا لكتاب أكاديمى مترجم (يقصد مقاله السابق على المكالمة والذى نشر بعنوان تكيف الكفيف) والذى يعرض فيه كتابا مترجما بالعنوان ذاته قلت: نعم وبالذات مقالك الأخير، فهو فضلا عما انطوى عليه من معلومات قيمة، هو أولا وقبل كل شىء نوع من الاختيار الإبداعى: ذلك أنك حينما توجه الكاميرا إلى وجهة معينة من بين سائر الوجهات وإلى زاوية معينة من بين كل الزوايا، فأنت تمارس فعلا من أفعال الإبداع بل إنه جوهر الإبداع ذاته.