عادل حمودة يكتب: الصلاة فى جزيرة الشيطان (8)
ملفات اللعبة واللعنة ببصمات قطرية
رغيف خبز ورغيف حرية!
■ احتكرت قطر مباريات كرة القدم لمدة 12 سنة مقابل 700 مليون دولار لتسيطر على شبابنا بالرياضة
■ عرضت على القنوات العربية البث المجانى على قمرها سهيل سات لتضرب النيل سات وكادت أن تنجح لولا قرار المقاطعة
■ عندما توافرت الحرية فى القنوات المصرية تدنت نسبة مشاهدة الجزيرة وأخواتها
الجماهير المصرية اعتادت الاحتشاد فى المقاهى والساحات العامة لمشاهدة مباريات المنتخب فى السنوات الأخيرة عبر شاشات BEIN SPORT
كانت مصر كلها تشاهد مباراة منتخبها القومى فى نهائى كأس الأمم الإفريقية فى حالة من التوافق الاجتماعى لم تحدث منذ ثورة يناير 2011 بجانب حالة من الاطمئنان النفسى والأمنى لم تشعر بها منذ أن ضربها الإرهاب.
لكن تلك اللحظات الرائعة النادرة تبددت بطعنات قاتلة تلقاها شاب لا يزيد عمره على 24 سنة هو محمود بيومى فى صدره من عامل فى كافيه بحى مصر الجديدة عقب نهاية المباراة لتكشف عن جريمة أكبر شاركت فيها المحليات بغض الطرف عن مافيا الكافيهات وشاركت فيها قطر بدفع الضحية إلى مسرح الحدث ليلقى مصيره المؤلم.
لم يكن لمصر الحق فى مشاهدة مباريات كأس الأمم الإفريقية إلا على قنوات بين سبورت القطرية التى تبث إرسالها على قمر صناعى قطرى أيضا هو سهيل سات بعد أن خرجت من القمر الصناعى المصرى نايل سات.
كانت قطر قد اشترت حق بث مباريات كأس الأمم الإفريقية من شركة فرنسية تسمى لاجاردير سبورت التى سبق أن احتكرت بث هذه المباريات لمدة 12 سنة (من 2017 إلى 2028) بمليار دولار من الاتحاد الإفريقى لكرة القدم وقت أن كان يرأسه عيسى حياتو وبطريقة وصفتها الدكتورة منى الجرف رئيس جهاز منع الاحتكار بأنها غير سليمة فلجأت إلى النيابة العامة المصرية وقدمت بلاغا لم ينته إلى شىء وإن فقد حياتو منصبه الذى استمر فيه نحو 20 سنة فيما بعد.
بسبب ذلك الاحتكار المتعمد من قطر لم يكن أمام الشعب المصرى لمتابعة مباريات فريقه القومى سوى الذهاب إلى الكافيهات المشتركة فى قنوات بين سبورت واستغلت تلك الكافيهات الفرصة فرفعت أسعارها بجنون وجاءت ببلطجية لجمع الحساب حتى لا يفلت أحد فى زحام ما بعد المباريات وعندما فقد محمود بيومى أعصابه بسبب هزيمة مصر من الكاميرون مطالبا بسرعة إحضار الفاتورة وجد فى صدره طعنات انتهت بمصرعه على صدر خطيبته.
وشركة لاجاردير سبورت مجموعة إعلامية تحترف التسويق الرياضى فى وقت أصبحت فيه الرياضة مجالا ذهبيا (وربما ماسيا) للاستثمار يحقق أرباحا سنوية تزيد على الألف مليار دولار من بث المباريات إلى التجارة فى اللاعبين ومن تصوير تدريبات الفرق إلى وضع الإعلانات التجارية فى النوادى وعلى الفانلات والأحذية.
بدأت تلك الشركة نشاطها عام 2001 وبعد خمس سنوات استحوذت على شركة منافسة هى سبورت فايف ودفعت فيها 865 مليون يورو.
سبق أن احتكرت سبورت فايف حقوق بث مباريا كأس العالم للقارة الإفريقية (2008 - 2016) وبدت متعسفة عندما عرضت عليها مصر مبلغ مليون ونصف المليون دولار لبث مباراتها مع غانا فى كأس العالم عام 2014 ولكن الشركة منحت الحق لشبكة بين سبورت القطرية لتجذب المشاهد المصرى إليها وعندما بثت مصر المباراة استجابة لضغوط شعبها عوقبت بغرامة مليونى دولار.
هنا كشفت قطر عن وجه آخر سافر للنيل من مصر بفتح جبهة جديدة مختلفة لم تكن لتخطر على البال فى حربها التى لا تتوقف ضدنا.
إن بلدا مثل مصر يمثل الشباب فيه ما يزيد على ستين فى المائة من سكانه تحظى الرياضة فيه باهتمام يتجاوز الجنون والهوس يمكن وضع نظامه فى حرج مع شعبه لو دفعت قطر مئات الملايين لحرمانه من متابعة مباريات كرة القدم التى يلعب فيها فريقه القومى.
ولا شك أن مشهد ترك ملايين من المصريين بيوتهم بحثا عن مكان يتابعون فيه المباريات قد أسعد العائلة القطرية الحاكمة الكارهة لنا وحقق لهم نوعا من الانتشاء.
ولابد أن الشيطان القطرى الذى لا يعرف للمال قيمة قد فكر بهذه الطريقة فلم يتردد فى تنفيذها ودخل شريكا فى لاجاردير سبورت ليضمن ما يشاء.
ساهم صندوق قطر للاستثمار فى الشركة بنحو عشرة فى المائة وتولى مدير الصندوق رئاسة الشركة مما ضاعف من تحكم قطر فى سياسة الشركة وضاعف من ذلك التحكم شراء قنوات بين سبورت التى تشرف عليها الشيخة موزة شخصيا حقوق البث بكل أنواعه (أرضى وفضائى وإنترنت) لكل مباراة كرة قدم تجرى على أى ملعب فى أى دولة ودفعت 700 مليون دولار دون أن تفكر فى حساب الربح والخسارة، فالمهم شعور قطر بأنها دولة عظمى تسيطر على النوادى الرياضية الشهيرة فى العالم وتتحكم فى مليارات المتابعين لها.
بل إن الشركة بالملايين القطرية انتقلت من احتكار مباريات كرة القدم إلى احتكار مباريات باقى الرياضات وفعاليات الأوليمبياد بلا استثناء تقريبا ليزيد شعور الدوحة بالانتفاخ.
وباحتكار قطر للمباريات الرياضية المتنوعة وجدت أنها ستكون أكثر زهوا لو أطلقت قمرا صناعيا تبث هذه المباريات عليه وهو ما حدث عندما أطلقت قمرها سهيل سات.
ولم يكن هدفها وراء إطلاق سهيل سات سوى الخروج من القمر الصناعى المصرى نايل سات ليتحول العرب عنه بعد أن أغرت كثيرًا من القنوات الشهيرة بمميزات إضافية منها بث مجانى لمدة معينة قبل أن تطالبها بالفواتير.
ووضعت قطر على سهيل سات قنوات أخرى مغرية فى الدراما والسياسة والسينما والمرأة لتضمن تحول المصريين إليه حتى ينسوا نايل سات تماما وفى هذه الحالة تستطيع قطر أن تبث سمومها الإعلامية فى العقول المصرية، خاصة الشابة منها، وتحرضها على حياتها ونظامها وتدفع بها إلى الطرق التى تريدها فى زمن أصبح فيه التليفزيون هو المربى المؤثر فى السلوكيات والمصدر المباشر للمعلومات.
ولخطورة القضية طلب وزير الشباب والرياضة المهندس خالد عبد العزيز من منتدى أخبار اليوم مناقشتها فى جلسة خاصة يشترك فيها خبراء يعرفون خباياها ويتابعون تطوراتها ربما وجد عندهم منفذا للخروج.
عقدت الجلسة مساء يوم الأحد 15 يناير 2017 فى فندق الماسة برئاسة عمرو موسى (رئيس المنتدى) بحضور وزير الشباب ووزير التخطيط وقتها أشرف العربى ووزير الإعلام الأسبق أسامة هيكل وسلفه فى الوزارة نفسها أحمد أنيس قبل أن يصبح مسئولا عن نايل سات ونبيل فهمى وزير الخارجية السابق وحسن يونس وزير الكهرباء الأسبق ومنى الجرف وأسامة الشيخ الرئيس الأسبق لاتحاد الإذاعة والتليفزيون ومحمد العمرى رئيس شركة صوت القاهرة وتابعت وسجلت كل ما قيل باهتمام وشغف بعد أن شعرت أننا أمام مشكلة إضافية تمس الأمن القومى بطريقة غير مباشرة.
ألقى خالد عبد العزيز المشكلة فى حجر الحضور مشيرا إلى أن قرار تعويم الجنيه الذى اتخذته حكومة شريف إسماعيل فى 3 نوفمبر 2016 امتد تأثيره إلى وزارته، فالمشروع الذى رصدت له ميزانية 250 مليون جنيه يحتاج تنفيذه بعد التعويم إلى 1250 مليون جنيه وضرب الوزير هذا المثل للتدليل على أن الوزارة أو الحكومة لا تملك التمويل الكافى لشراء حقوق بث المباريات التى تشارك فيها مصر، وهو ما يتنافى مع حق المصريين فى مشاهدة ومتابعة فرقهم الرياضية التى يتعصبون لها وكثيرا ما يسافرون لتشجيعها ولو فى آخر الدنيا.
وفى ظل التكاليف المرتفعة لحقوق البث دفعت وزارة الشباب 11.5 مليون جنيه (مثلا) ليشاهد المصريون فى عام 2012 أوليمباد لندن (14 يوما) ولكن الوزارة بمواردها المالية المحدودة لا تستطيع أن تمول غالبية الأحداث الرياضية العالمية والإقليمية الأخرى، خاصة بعد مغالاة قطر المحتكرة لها فى قيمة الفواتير.
وزادت الحرب على مصر بانتقال قنوات بين سبورت من نايل سات إلى سهيل سات منذ نهاية يونيو 2016.
فى ذلك الوقت كان عدد المشتركين فى نايل سات 250 ألف مشترك وتوقعت الحكومة ألا يجدد 20 ألف مشترك منهم اشتراكهم كل شهر لينصرفوا عنه فى فترة قياسية قصيرة.
ويشاهد نايل سات حسب تقديرات أحمد أنيس 75 مليون مشاهد بينما لم يزد عدد مشاهدى سهيل سات وعرب سات على 25 مليون مشاهد لكن الأرقام بدأت تتجه صعودا وبسرعة عالية نحو سهيل سات بعد أن احتكرت بين سبورت الأحداث الرياضية بداية من كأس الأمم الأوروبية فى يونيو 2016 وسوف تتوالى القفزات مع المباريات القادمة لكأس العالم.
وضمت سهيل سات قنوات الموسيقى ومسابقات المواهب والطهى والترفيه بجانب قنوات الرياضة ما ضاعف إغراء التحول إلى سهيل سات وفى فترة زمنية قصيرة وصل عدد مشاهديه فى مصر إلى مليون ونصف المليون مشاهد فى المنازل ويكاد الرقم يزيد على الخمسة ملايين مشاهد (فى المقاهى والنوادى) وقت مباريات كرة القدم الأوروبية ويتجاوز الرقم الثلاثين مليون مشاهد بسهولة (فى تلك الأماكن) وقت مباريات تشارك فيها مصر.
واعترف الجميع بأن قدراتنا المادية لا تقدر على المنافسة ولكن الأهم أن هذا الوضع سيستمر تحت سيطرة قطر 12 سنة فما الحل؟
كل الاقتراحات التى قدمت للحل لم تتسم بصيغة عملية أو واقعية منها الضغط على قطر فى الجامعة العربية.. ومنها خلق تجمع عربى وإفريقى يكون قادرا على شراء حقوق البث فى المستقبل.. ومنها وضع شاشات كبيرة فى الميادين ليشاهد المصريون مباريات فرقهم القومية فى الرياضات المختلفة.. ومنها الاهتمام بالسينما والدراما التليفزيونية الجيدة لتعويض الدور الذى فقدته مصر فى المحيط العربى.
وانفض الاجتماع كما بدأ بل ربما خرج الحضور أكثر يأسا وأكثر خوفا من الغزو الثقافى القطرى لشبابنا بأفكار خبيثة تتفجر كراهية للوطن وتنحاز أكثر للتطرف وتحض على قتل الآخر وتستريح بلا تتردد للفوضى وتشتهى إسالة دماء الأبرياء.
لكن جاءت قرارات مقاطعة قطر فى 5 يونيو من حيث لا نحتسب بفرصة ذهبية لا يجوز التفريط فيها.
أصبح على قنوات الدول العربية المقاطعة أن تنسحب من القمر القطرى لتقلل من عدد مشاهديه ولتقلل من خطورة ما يبث من أفكار عبر قنوات اختارها بعناية.
لكن.. الأهم أن تستخدم مصر ثروتها من المبدعين تليفزيونيا فى إنتاج مسلسلات وبرامج قادرة على الانتشار والتأثير دون أن تغفل عنصر التشويق وهى معادلة ليست صعبة إذا ما لجأنا إلى كتّاب سيناريو يجيدون صنعتهم مثل وحيد حامد وتامر حبيب ومدحت العدل وغيرهم.
على أن هؤلاء لن يبدعوا ما لم نوفر لهم جوا من حرية التعبير سيطرت عليه سحب كثيفة قلصت من إبداعهم.
ولأن الحرية لا تتجزأ فإنها يجب أن تعبر عن نفسها فى جميع المجالات «سياسية وحزبية وإعلامية وأكاديمية» وفى كل الوسائل «تليفزيون وراديو وجرائد» بعد أن تراجعت كثيرا ففقدت جمهورها بعد أن فقدت مصداقيتها.
دون حرية لا كفاءات تظهر.. ولا أفكار تثمر.. ولا أوطان تزدهر.
إننا نحتاج رغيف الخبز ونحتاج فى الوقت نفسه رغيف حرية ولو توافرا فلن نبحث عن ترددات الجزيرة ومثيلاتها، وهو ما حدث من قبل.