تفسير الشعراوي للآية 58 من سورة النساء

إسلاميات

الشيخ محمد متولي
الشيخ محمد متولي الشعراوي


{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)}.

وقوله سبحانه: {أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا}، أوجز الله فيها كل تكاليف السماء لأهل الأرض، لأن الأمانات هي: الأمانة العليا وهي الإيمان بالله، والأمانة التي تتعلق ببني الجنس، والأمانة التي على النفس لكل الأجناس.

ومعنى الأمانة هو: ما يكون لغيرك عندك من حقوق وأنت أمين عليها، إن شئت فعلتها، وإن شئت لم تفعلها، أنت تقول: أنا أودعت عند فلان أمانة، هذه الأمانة لو كانت بإيصال لما كانت أمانة؛ لأن هناك دليلاً، ولو كان ما أودعته عند ذلك الإنسان عليه شهود لا تكون أمانة. فالأمانة: أن تودع عنده شيئاً، وضميره هو الحكم، إن شاء أقر بما عنده لك حين تطلبه، وإن شاء لم يقر به، قال الحق: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72].

فما هي الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبت أن تحملها ثم حملها الإنسان، وعلة تحمله لها أنه كان ظلوماً جهولاً؟ إن الكون كما نعلم فيه أجناس، أدناها الجماد، وأوسطها النبات، وأعلى من الأوسط الحيوان ثم الإنسان، والإنسان هو سيد هذه الأجناس، لأنها تخدمه جميعها، لكن الجماد والنبات والحيوان لا اختيار لأي منها في أن يفعل أو لا يفعل، وإنما كل جنس منها قد خلق لشيء ليؤديه، ولا اختيار له في أن يمتنع عن الأداء.

الأرض والسماوات والجبال لم تقبل أن تكون مختاره أو أن تحمل أمانة وتكون المسألة فيها راجعة إلى اختيارها إن شاءت فعلت وإن شاءت لم تفعل. وأشفقت الأرض والسماوات والجبال من حمل الأمانة لعدم الثقة بحالة النفس وقت أداء الأمانة. فيجوز أن يعقد الكائن العزم عند تحمل الأمانة أن يؤديها، ولكن عند أدائها لا يملك نفسه، فربما خانته نفسه وجعلته لا يقر بها. لقد احتاطت السماوات والأرض والجبال وقالوا: لا نريد هذه الأمانة ولا نريد أن نكون مختارين بين أن نفعل أو نترك، نطيع أو نعصي، وإنما يا رب نريد أن نكون مسخرين لما تحب دون اختيار لنا. فسلمت الأرض والسماوات والجبال، لكن الإنسان بما فيه من فكر يرجع الاختيار بين البديلات قال: أنا أقبلها وإن فكري سيخطط لأدائها. ولم يلتفت الإنسان ساعة تحمله الأمانة إلى حالة أدائه لها.

ومثال ذلك: من الجائز أن يعرض عليك إنسان مبلغاً من المال كأمانة عندك، فأخذته وأنت واثق أنك ستؤديه حين يطلبه منك، ولكنك ساعة الأداء قد لا تملك نفسك، فقد تمر بك ظروف فتصرف شيئاً من المال، أو أن تكون- والعياذ بالله- قد خربت ذمتك.

إذن فالإنسان لا يملك نفسه وقت الأداء وإن ملك نفسه وقت الأخذ، فالذين يحتاطون يقولون: أبعد عنا تحمل الأمانة، فلا نريد أن نحمل لك شيئاً ولكن الإنسان قبل تحمل الأمانة؛ لأنه (كان ظلوما جهولا) ظلم نفسه وجهل بحالته وقت الأداء، إذن فالأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان هي أمانة الاختيار التي يترتب عليها التكليف من الله.

إن التكليف محصور في (افعل) و(لا تفعل)، فإن شئت فعلت في (افعل)، وإن شئت لم تفعل في (لا تفعل). وإن شئت العكس، ومعنى ذلك أن الأمانة في هذا المعنى مقصورة على ما طلبه الله من الإنسان وقت العرض. لكنها لم تتعرض للأمانات التي توجد بيننا، والأمانة كذلك هي ما يتعلق بذمتك بحق غيرك؛ لذلك فحين يعطي إنسان إنساناً شيئاً يصير الآخذ مؤتمناً فإن شاء أدى وإن شاء لم يؤد.

لكن هناك أمانات أخرى لم يعطها إنسان لإنسان، وإنما أعطاها رب الإنسان لكل إنسان، فالعلم الذي أعطاه الله للناس أمانة. فهل الذي علمك علماً وأعطاه لك وبعد ذلك قال لك: أدّه لي، كمثل من يكون مأموناً على مال؟ نقول للعالم: العلم ليس من عندك حتى تعطيه لغيرك وبعد ذلك يرده لك ولكن الله يجازيك عليه ثواباً وكذلك في الحلم والشجاعة، ولا تتضح هذه المسائل بين العبد والعبد إلا في المال، لكن في بقية الأشياء؛ نقول لك: أنت أمين عليها أمام خالقك، وقد أمنك ربنا على هذه الأشياء كي تؤديها إلا من لا يعلم، فأمنك على قدرةٍ وأمرك: أعطها لمن لا يقدر، وأمنك على علم وأوضح لك: أعطه لمن لا علم له.

إذن فمن الذي أعطاك هذه الأمانة؟ الله. فليس ضرورياً أن تكون الأمانة من صاحبها الذي أعطاها لك لتردها إليه، فالأمانة: ما تصير مأموناً عليه مِمن خَلَقَ أو من مخلوق، فأدها، والأمانة بهذا المعنى أمرها واسع، فاستحقاق الله للتوحيد أمانة عندك، أهليتك للتكليف من الله حين كلفك أمانة عندك، وأهليتك في المواهب المختلفة أمانة عندك، فكل إنسان عنده موهبة هو أمين عليها ولابد أن يؤديها وينقل آثارها لم لا توجد عنده هذه الموهبة. فربنا أعطى هذا الإنسان قوة عضل، وأعطى ذلك قوة فكر، وأعطى ثالثاً قوة حلم، وأعطى رابعاً علماً. كل هذه الأشياء أمانات أودعها الله في خلقه ليتكامل الخلق، فحين يؤدي كل إنسان أمانته لكل إنسان يصبح كل إنسان عنده مواهب كل الآخرين.

والحق سبحانه وتعالى حينما يقول: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} نتذكر على الفور قمة الأمانة أن تعبده ولا تشرك به أحداً، والأمانة في التكاليف التي كلفك الله بها؛ لأنها أمانة لغيرك عندك، وأمانة عندك لغيرك. فحين يكلفك الله بألا تسرق، يكون قد كلف الناس كلهم ألا يسرقوك.

إن كل أمانة عند غيرك تقابلها أمانة عندك، فإن أديت مطلوبات الأمانة عندك أدى المجتمع الذي يحيط بك الأمانة التي عنده، وهكذا تكون الأمانة هي: أداء حق في ذمتك لغيرك.

وقوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} قيل نزلت في عثمان ابن طلحة ابن أبي طلحة وكان سادن- خادم- الكعبة وحين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب الكعبة وصعد السطح، وأبى أن يدفع المفتاح إليه وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى عليُّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- يده وأخذه منه وفتح ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجتمع له السقاية والسِّدانة فنزلت هذه الآية فأمر أن يرده إلى عثمان- رضي الله عنه- ويعتذر له فقال عثمان لعلي: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق، فقال لقد أنزل الله فيك قرآنا وقرأ عليه الآية فأسلم عثمان وهبط جبريل وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السِّدانة في أولاد عثمان أبدًا.

وهذا يقابل الأمانة شيء بعد ذلك اسمه العدل، فلو أدى كل واحد ما لغيره عنده من حق لما احتجنا إلى عدل، فالعدل إنما ينشأ من خصومة وتقاضٍ، والتقاضي معناه: أن واحداً أنكر حق غيره. فلو أدى كل واحد منا ما في ذمته من حق لغيره لما وجد تقاضٍ، ولما وجدت خصومة فلا ضرورة إلى العدل حينئذٍ.

ولكن الحق الذي خلق الخلق وعلم الأغيار فيهم قدر أن بعض الناس يغفل عن هذه القضية وينشأ منها أن الإنسان قد لا يعطي الحق الذي في ذمته لغيره، فقضي سبحانه بشيء آخر اسمه (العدل). ولو أن المسألة الأولى انتهت لما احتجنا للعدل.

إذن فالعدل هو علاج للغفلة التي تصيب البشر من الأغيار التي تطرأ على نفوسهم، فشاء الله أن يقول: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل}، في الأولى لم يقل: إذا أئمنتم فأدوا، لا. بل قال: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ}. فإذا حدثت منكم غفلة عن هذه فما الذي يحمي هذه المسألة؟ هنا يأتي العدل وهو أن تقضي بحق في ذمة غيرك لغيره، أي ليس في ذمتك أنت؛ لأنك تحكم كي ترجح مسألة وتضع الأمر في نصابه.

وبذلك نعرف أن مطلوبات أداء الأمانة تكون في شيء عندك تؤدية لغيرك، لكن مطلوبات العدل: تكون في أشياء في ذمة غيرك لغيرك. ولذلك قال الحق: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل}، وكما أن آية أداء الأمانة عامة، كان لابد أن تكون آية العدل عامة أيضًا.

إن قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} ليست خاصة للحاكم فقط، بل إنّ كل إنسان مطالب بالعدل، فلو كنت مُحَكَّماً من طرف قوم ورضوا بك أن تحكم فاحكم بالعدل حتى ولو كان الحكم في الأمور التي يتعلق بها التكريم والشرف والموهبة؛ فليس ضرورياً أن يكون الحكم بالعدل في أمر له قيمة مادية، مثلاً: سيدنا الإمام علي- رضوان الله عليه وكرم الله وجهه- يرى غلامين يتحاكمان إلى ابنه الحسن؛ ليحكم بينهما أي الخطين أجمل من الآخر، وهذه المسألة قد ينظر لها الناس على أنها مسألة تافهة لكنها ما دامت شغلت الطفلين وأراد كل واحد منهما أن يكون خطه أجمل، فلابد أن يكون الحكم بالعدل. فقال الإمام على لابنه الحسن: يا بني انظر كيف تقضي، فإن هذا حكم والله سائلك عنه يوم القيامة.

إن هذا يعطينا صورة في دقة العدل حتى ولو كان الأمر صغيراً. وفي مباريات كرة القدم تجد الحكم الذي يقول هذه اللعبة تحتسب هدفاً أو لا تحتسب، هذا الحكم يحتاج إلى مهارة لأنه سيترتب عليها فوز فريق أو هزيمته، بدليل أنك حتى وأنت تراقب الكرة ثم وجدت الحكم لم يحتسب خطأ تثور عليه.

وهنا أتساءل: لماذا طبقتم قانون الجد في اللعب، ثم تركتم الجد بدون قانون؟ وهذا ما يحدث. نحن ننقل قوانين الجد إلى اللعب، ونترك الجد في بعض الأحيان بدون قانون، ولو اعتنينا بهذه كما اعتنينا بتلك. لتساوت الأمور، فالعدل إذن هو حق في ذمة غير لغير حتى ولو كانت مباراة في اللعب، وما دام الأمر قد شغل طرفين، وجعل بينهما نزاعاً وخلافا وتسابقاً فعليك أن تنهي هذا الخلاف بالعدل.

ويتابع الحق: {إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} و(نعما) يعني نعم ما يعظكم به الله، أي لا يوجد أفضل من هذه العظة التي هي: أداء الأمانة والحكم بالعدل، فبهذا تستقيم حركة الحياة. فإذا أدى الناس الأمانة فلا نزاع ولا خلاف، وإذا أدوا عدالة الحكم فإن كان هناك خلاف ينتهي. وقال العلماء: إذا علم المجتمع أن عدلا يحرس حقوق الناس عند الناس فلن يجرّيء ذلك ظالماً على أن يظلم بعد ذلك، فيقول الظالم: فلان ظلم ولم يحاكم، فيغري ذلك الظالم أن يزيد في ظلمه، لكن ساعة يرى الناس أحداً يأخذ حق غيره ثم جاء الحاكم فردعه، ورد الحق لصاحبه فلن يظلم أحد أحداً.

وسبحانه في أمره هذا لا حاجة له في أن تفعلوا أو لا تفعلوا، فهي أشياء لا تؤثر عنده في شيء، إنما هي في مصالحكم أنتم بعضكم مع بعض، وأحسن ألوان الأمر هو ما لا يعود على الآمر بفائدة، لأن الأمر إذا ما كان فيه عود بالفائدة على الآمر قد يشكك في الأمر.

لكن أن تأمر بأمر ليس لك فيه فائدة فهذا قمة العدل. وقد يوجد إنسان يأمر بما لا فائدة له فيه، لكنه قد لا يكون واسع العلم ولا واسع الحكمة، والأمر هنا يختلف لأن الله سبحانه وتعالى ليس له مصلحة في الأمر، هذه واحدة، وأيضاً فهو سبحانه واسع العلم والحكمة؛ لذلك كانت هذه العظة مقبولة جداً، وهي نعمة من الله وأما ما عداها فبئست العظة؛ لأن الله لا ينتفع بأمره هذا وهو مأمون على العباد جميعاً، والثانية: أنه قد يوجد غير لا ينتفع بالأمر ولكنه قاصر العلم وقاصر الحكمة فلا نعمت العظة منه، فقوله: {إِنَّ الله نِعِمَّا} يعني: نعم ما يعظكم به الله أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن تحكموا بالعدل.

ونلحظ الأداء البياني في القرآن في قوله: (تؤدوا) هذه للجماعة، وهذا يعني أن كل واحد مطالب بهذا الحكم أولا، {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل}، فيكون كل واحد مطالباً بالحكم أيضاً، كأن مهمتكم الأمانية ليست مقصورة على أن تصونوا حقوقكم بينكم وبين أنفسكم، لا، فأنتم مكلفون بأن تصونوا الحقوق بين الناس والناس ولو لم يكونوا مؤمنين.

إن قوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس}. يُفهم منها أيضاً حماية حقوق من آمن بالإسلام ومن لم يؤمن بدين الإسلام؛ لأن الحق جل وعلا يريد منا أن نؤدي الأمانة إلى (أهلها)، ولم يقل (أهلها) المؤمنين أو الكافرين.

إن كلمة (الناس) هذه تدل على عدالة الأمر من إله هو رب للجميع، فسبحانه هو الذي استدعى الإنسان للدنيا، والإنسن منه مؤمن ومنه كافر. لكن أحداً لا يخرج عن نطاق الربوبية لله، فربنا يُربُّ ويرعى كل إنسان- مؤمناً كان أو كافراً- هو يرزق الجميع ولذلك أمر الكون: يا كون أعط من فَعَلَ الأسبابَ الغاية من المسببات إن كان مؤمناً أو كافراً. وهذا هو عطاء الربوبية، إنه سبحانه رزق الإنسان وسخر الأشياء له، فهو لم يسخر الكون للمؤمن فقط وإنما سخره للمؤمن وللكافر، فكذلك طلب منا أن نؤدي الأمانة للمؤن والكافر، وطلب منا أن نعدل بين المؤمن والكافر.

ولنا في الرسول صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، فقد حدث أن (طعمة ابن أُبيرق) أحد بني ظُفر سرق درعا من جارٍ له اسمه (قتادة بن النعمان)، في جراب دقيق والاثنان مسلمان، إلا أن منافذ الحق لمرتكب الجريمة ضيقة مهما ظن اتساعها، مثلما نقول: (الجريمة لا تفيد)، فوضع الدرع المسروقة في جراب كان فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب وهو يسير من بيت قتادة بن النعمان وخبأ الدرع عند يهودي اسمه (زيد بن السمين)، فلما فطن قتادة بن النعمان لضياع الدرع قال: سرق الدرع.

سرق الدرع. فتتبعوا الأثر فوجدوه إلى بيت طعمة ابن أبيرق، فحلف ما أخذها وما له بها علم فتركوه. فتتبعوا الأثر ثانية فوجدوا الدرع عند اليهودي (زيد بن السمين) فقال اليهودي دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود، ورفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء بنو ظفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا: إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبريء اليهودي فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل وأن يعاقب اليهودي فأنزل الله عليه حكمه الفصل: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً واستغفر الله إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} [النساء: 105-107].

أي لا تكن يا محمد مدافعاً عن الخائنين واستغفر الله إن كان هذا الخاطر قد جال برأسك بأن ترفع رأس مسلم على يهودي؛ لأن الحق أولى من المسلم؛ فما دام هو قبل أن يخون فلا تجادل عنه، ولماذا طلب بنو ظفر التغاضي عن جريمة مسلم وإلصاقها بيهودي؟ أيستخفون من الناس ولا يستخفون من الله؟ وافرض أن هذه برأتهم عند الناس. أتبرئهم عند الله؟ ويقول في آية أخرى: {هَا أَنْتُمْ هؤلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة} [النساء: 109].

إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} لابد أن نأخذه على أنه مطلب تكليفي من الله للمسلمين حتى يشيع في كل الناس ولا يخص المؤمنين يتعاملون به فيما بينهم، وإنما يشمل أيضا ما بين المؤمنين والكافرين، وما بين الكافرين بعضهم مع بعض إن ارتضوا حكم رسول الله.

{إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} وحين ترون تذييل آية بصفتين من صفات الحق أو باسمين من أسماء الحق، فلابد أن تعلموا أن بين الصفتين أو بين الاسمين وبين متعلق الآية علاقة، وهنا يعلمنا الحق أنه سميع وبصير. بعد أداء الأمانة، والحكم بالعدل بين الناس، لأن الرسول شرح ذلك حين أمر من يقضي بين الناس أن يسوي بين الخصمين في لحظى ولفظه أي لا ينظر لواحد دون الثاني، ولا يكرم واحداً دون الآخر، فيسوي بين الاثنين وما دام سيسوي بين الاثنين، فلابد أن تكون النظرة واحدة، والألفاظ واحدة.

روى أن يهوديا خاصم سيدنا عليا بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فنادى أمير المؤمنين عليا فقال: (قف يا أبا الحسن) فبدا الغضب على عليّ رضي الله عنه، فقال له عمر: (أكرهت أن نسوي بينك وبين خصمك في مجلس القضاء؟) فقال علي رضي الله عنه: "لا. لكني كرهتُ منك أن عظمتني في الخطاب فناديتني بكنيتي ولم تصنع مع خصمي اليهودي ما صنعت معي".

إذن فحين يقول عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري: "آسِ بين الناس في مجلسك ووجهك".

فلا بد أن يقوم بتلك التسوية كل حاكم أو محكم بين خصمين فلا يميز ولا يرفع خصما على خصمه.

واللحظ عمل العين. وهذا يحتاج إلى بصير، واللفظ يحتاج إلى أذن تسمع، أي إلى سميع، فقال: {إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}. لماذا قدم سبحانه هنا سميعاً على بصير؟ لأن ما يُسمع فيه تعبير واضح. أما النظرة فلا يعرفها إلا من يلاحظ أنه ينظر بحنان وإكبار، وهل وجدت له سبحانه صفة السمع بعد أن وجد ما يسمعه، وهل وجدت له صفة البصر بعد أن وجد ما يبصره؟ أو أن صفة السمع أزلية قديمة قبل أن يخلق خلقاً يسمع منه، وأن صفة البصر أزلية قديمة قبل أن يخلق خلقاً ليبصر أفعالهم؟ إنه سبحانه قديم أزلاً، موجود قبل كل موجود. وصفاته قديمة بقدمه.

إذن ففيه فرق بين أن تقول: سميع وبصير، وسامع ومبصر، فأنت تكون سامعاً إذا وجد بالفعل من يٌسْمع، إذن فما معنى كلمة (سميع) ؟ أن يكون المدرِك على صفة يجب أن تدرك المسموع إن وجد المسموع وإن لم يوجد المسموع فهو ليس سامعاً فقط، إنما هو سميع، وكذلك بصير.

وأضرب المثل- ولله المثل الأعلى، وهو منزه عن كل تشبيه- الشاعر الذي يقول القصيدة، إنه قبلما يقول القصيدة كان شاعراً في ذاته وقال القصيدة بوجود ملكه الشعر في ذاته. والحق سبحانه وتعالى (غفَّار) قبل أن يخلق الخلق، أي أنه على صفة تدرك الأمر إن وجد.. وهو غفار قبل أن يوجد الخلق ويرتكبوا ما يغفره، وهو (سميع بصير) أزلاً. أي قبل أن يخلق الخلق الذين سينشأ منهم ما يٌُبْصر وينشأ منهم ما يُسْمع.

ويقول الحق بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ...}.