عبد الحفيظ سعد يكتب: "جيمى" وشقيقه يعودان للمدرجات
"الوريث الفاشل" يخرج لسانه لشباب مصر فى استاد القاهرة
ربما كانت سوزان مبارك حرم الرئيس الأسبق، تشاهد مثل ملايين المصريين والعرب، مسلسل «لن أعيش فى جلباب أبي»، للراحل نور الشريف، والذى كان تجسيدا للرواية التى تحمل نفس الاسم، للكاتب إحسان عبدالقدوس.
وتحكى الرواية محاولة تمرد الابن على عمل والده العصامى، الذى تحول من عامل بسيط فى سوق الخردة، للرجل الأول فى السوق، وصاحب الملايين.. لكن ابنه الذى جسده تليفزيونياً الفنان محمد رياض، أراد أن يخرج من جلباب أبيه.. مكنته ثروة والده، بالإضافة لـ«دلع» أمه «فاطمة كشرى» من أن يجرب ويسافر، فى محاولة منه أن يجد فرصة فى النجاح وإثبات نفسه، بعيدا عن عمل والده.. وبعد محاولات فاشلة متعددة، يرضخ الابن فى النهاية للقبول بأن يُكمل مسيرة والده فى العمل بتجارة الخردة والعقارات.
قصة المسلسل، التى دارت أحداثه فى فترة السبعينيات من القرن العشرين، والتى تزامنت مع الانفتاح الاقتصادى، ترصد ثقافة جيل متمرد على عمل الوالد، محاولات الخروج عنه، فلم يكن مألوفاً أن يسعى الابن لوراثة عمل والده، وكان التمرد بالبحث عن مهن أخرى بعيدة عن عمل الأب.
الغريب أن توقيت تحويل القصة إلى عمل تليفزيونى، ثم عرضه على الشاشة فى عام 1995، تواكب معه تحولات درامية فى بلاط الحكم العربى، فى بلاد اتخذت نظاماً جمهوريا منذ عقود.
فى سوريا، كان يتم الإعداد بسرعة للوريث «بشار الأسد»، ليخلف والده، بعد أن توفى شقيقه الأكبر «باسل» الأسد الذى كان يتم إعداده منذ سنوات للخلافة، لكنه رحل فى حادث سيارة غامض عام 1994، أى قبل عرض مسلسل «لن أعيش فى جلباب أبى»، ما أجبر النظام السورى وقتها على تجهيز الابن الأوسط «بشار»، ليخلف والده الذى تزيدت عليه أعراض المرض خاصة بعد فقدانه ابنه الأكبر.. لدرجة أنه تم تغيير الدستور السورى فى ساعات قبل رحيل الأسد الأب، لتتلاءم مع عمر الوريث الذى لم يكن تجاوز فى عام 2000 أربعة وثلاثين عاماً.
تصعيد بشار الأسد، للحكم فى سوريا، والتى كانت مؤهلة لطبيعة الحكم العائلى، والطائفى المسيطرة هناك، متمثلا فى الطائفة «العلوية» التى لا تقبل أن يأتى أحد من خارجها للحكم.. لكن ما حدث فى سوريا، فتح شهية نظم سياسية عربية «جمهورية»، لمحاولات توريث الابن الحكم من بعد أبيه، فى ليبيا ظهر سيف الإسلام القذافى، وفى اليمن بدأ تصعيد «أحمد» بن على عبدالله صالح.
وفى مصر، كان جمال مبارك، الابن الثانى للعائلة، والذى كانت ترى فيه أمه، أنه الأصلح من شقيقة الأكبر «علاء»، والذى شوهت صورته منذ البداية أحاديث النميمة السياسية والشعبية، عن بيزنسه ومشاركته للعديد من رجال الأعمال.
لكن الابن الأصغر «جيمي»، وهو اللقب الذى اشتهر به مبارك الابن بين شلته، لم تكن سمعته حتى ذلك الحين، طالها الكثير من أحاديث نميمة البيزنس الخفي.. وكانت الفرصة سهلة لتصعيده وتنجيمه، رغم عدم تمتعه بأى كاريزما ، أو قبول.
لذلك تم البحث عن مدخل، لإقحام جمال مبارك فى الحياة العامة، وكانت البداية، مع كرة القدم معشوقة الجماهير، والتى يتهافت المصريون على متابعتها من كل الاتجاهات.. بدأ «جيمي» يظهر بصحبة نجوم لامعة من كرة القدم والفن فى الدورات الرمضانية، يلعب ضمن فريق «الكرة الخماسية» التى تمارس فى الصالات المغطاة، ويتم نقل أحداثها كأنها بطولة حقيقية على شاشات التليفزيون فى أوقات الذروة فى شهر رمضان!
ومن ملاعب «الكرة الخماسية» بدأ اسم جمال مبارك يتردد، لتصنع له نجومية، سهلت له فيما بعد أن يطرح اسمه سياسيا، فى الحزب الوطنى، وأصبحت له يد فى حكم البلد من خلال والده الرئيس، ونفوذ والدته الممتدة فى العديد من مؤسسات الدولة خاصة الثقافية والإعلامية والاقتصادية.
الخطير فى ظهور جمال مبارك، كوريث للحكم من بعد والده، أنه خلق تحولاً كبيرا لدى المصريين فى ثقافة التوريث، و«العيش فى جلباب الأب» والتى ظهرت كأنها منهج عام بالدولة فى قطاعات عديدة ليس فى السياسية وحدها، بل فى القضاء والإعلام والجامعات، وحتى فى الفن والإبداع.. بل تحولت العرف فى الدواوين الحكومية والوزارات، بإعطاء الأولوية لأبناء الموظفين فى شغل الوظائف، إلى ما يشبه القانون، يعين فيه الأبناء فى نفس وظائف أبائهم..
وتحولت مصر إلى ما يشبه عزبة، الفرصة فيها بالوراثة، حتى قامت ثورة يناير، والتى كان مجرد خروجها عشرات الآلاف فى ميدان التحرير صباح يوم الثلاثاء 25 يناير، بمثابة إعلان نهاية سيناريو توريث جمال مبارك.. ولم تكن هناك حاجة للاحتجاجات التى جاءت فيما بعد سواء فى جمعة الغضب، أو «المليونيات» التى أجهضت حكم والده.
ولم يظهر جمال مبارك على مدار الشهور والسنوات التالية لـ«يناير»، إلا فى قفص الاتهام كمتهم سواء مع والده فى تهم قتل المتظاهرين أو قضايا فساد، والتى لم يصدر فيها حكم ضده باستثناء قضية «فساد قصور الرئاسة» التى أدين فيها بحكم نهائى بالسجن مع شقيقه الأكبر ووالده، والذى كان يعتقد البعض أنه كفيل، بأنه يجعله يختفى عن الأنظار، خاصة أنه متعلق بقضية فساد، مقضى بها بحكم نهائى بات من محكمة النقض.
لكن «جيمى» الفاشل فى التوريث، دون عن باقى المصريين، رغم أن «التوريث» ابتكر لأجله، لم يقبل بالوضع الذى كان هو سببا فيه، وأدى للقضاء على والده وتاريخه، ليحاول أن يظهر على السطح مرة أخرى، فى البداية فى الظهور فى أماكن عامة أو أداء واجب العزاء.
لكن ذلك لم يكن كافيا له، ليظهر الأحد الماضى فى مدرجات كرة القدم، التى كانت بداية التمهيد لظهوره قبل سنوات، لكن هذه المرة خلال المباراة الودية بين مصر وتونس باستاد القاهرة، فى محاولة منه للظهور مرة أخرى.. ليثير «غيظ» شباب المصريين، وهو محاط ببعض أتباعه كأنهم يزفونه مع قرب الذكرى السادسة للثورة التى كان أول ثمارها القضاء على مشروعه، يظهر «جيمى» وهكذا حقه كمواطن مصرى، لكنه ذلك فى الوقت الذى يحرم منه مئات الآلاف من الجماهير حتى من مدرجات كرة القدم التى يعشقونها، بالإضافة لوجود عشرات آخرين من زملائهم فى السجون.. ليزيد من جرحهم، مع ظروف اقتصادية وأسعار طاحنة، فماذا يريد؟