تفسير الشعراوي للآية 34 من سورة النساء
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)}.
{الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء}، أول ما نلتفت إليه أن بعضهم لم يفسروا الآية إلاّ على الرجل وزوجته على الرغم من أنَّ الآية تكلمت عن مطلق رجال ومطلق نساء، فليست الآية مقصورة على الرجل وزوجه، فالأب قوام على البنات، والأخ على أخواته. ولنفهم أولاً {الرجال قَوَّامُونَ} وماذا تعني؟ وننظر أهذه تعطي النساء التفوق والمركز أم تعطيهن التعب. والحق سبحانه وتعالى يطلب منا أن نحترم قضية كونية، فهو الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه وأوضح القضية الإيمانية {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} والذي يخالف فيها عليه أن يوضح- إن وجد- ما يؤدي إلى المخالفة، والمرأة التي تخاف من هذه الآية، نجد أنها لو لم ترزق بولد ذكر لغضبت، وإذا سألناها: لماذا إذن؟ تقول: أريد ابناً ليحمينا. كيف وأنت تعارضين في هذا الأمر؟
ولنفهم ما معنى (قوَّام)، القوَّام هو المبالغ في القيام. وجاء الحق هنا بالقيام الذي فيه تعب، وعندما تقول: فلان يقوم على القوم؛ أي لا يرتاح أبدا. إذن فلماذا تأخذ {قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} على أنه كتم أنفاس؟ لماذا لا تأخذها على أنه سعى في مصالحهن؟ فالرجل مكلف بمهمة القيام على النساء، أي أن يقوم بأداء ما يصلح الأمر. ونجد أن الحق جاء بكلمة (الرجال) على عمومها، وكلمة (النساء) على عمومها، وشيء واحد تكلم فيه بعد ذلك في قوله: {بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} فما وجه التفضيل؟
إن وجه التفضيل أن الرجل له الكدح وله الضرب في الأرض وله السعي على المعاش، وذلك حتى يكفل للمرأة سبل الحياة اللائقة عندما يقوم برعايتها. وفي قصة آدم عليه السلام لنا المثل، حين حذر الحق سبحانه آدم وزوجته من الشيطان، إبليس الذي دُعي إلى السجود مع الملائكة لآدم فأبى، وبذلك عرفنا العداوة المسبقة من إبليس لآدم، وحيثيتها: {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 61].
وأوضح الحق لآدم: إذا هبطت إلى الأرض فاذكر هذه العداوة. وأعلم أنه لن يتركك، وسيظل يغويك ويغريك؛ لأنه لا يريد أن يكون عاصياً بمفرده، بل يريد أن يضم إليه آخرين من الجنس الذي أبى أن يسجد هو لأبيهم آدم يريد أن يغويهم، كما حاول إغواء آدم: {إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة} [طه: 117].
وهل قال الحق بعدها: فتشقيا أو فتشقى؟ قال سبحانه: {فتشقى} [طه: 117].
فساعة جاء الشقاء في الأرض والكفاح ستر المرأةوكان الخطاب للرجل. وهذا يدل على أن القوامة تحتاج إلى تعب، وإلى جهد، وإلى سعي، وهذه المهمة تكون للرجل.
ونلحظ أنه ساعة التفضيل قال: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} لقد جاء ب (بعضهم) لأنه ساعة فضل الرجل لأنه قوّام فضل المرأة أيضاً لشيء آخر وهو كونها السكن حين يستريح عندها الرجل وتقوم بمهمتها.
ثم تأتي حيثية القوامة: {وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}. والمال يأتي نتيجة الحركة ونتيجة التعب، فالذي يتعب نقول له: أنت قوّام، إذن فالمرأة يجب أن تفرح بذلك؛ لأنه سبحانه أعطى المشقة وأعطى التعب للجنس المؤهل لذلك. ولكن مهمتها وإن كانت مهمة عظيمة إلا أنها تتناسب والخصلة المطلوبة أولاً فيها: الرقة والحنان والعطف والوداعة. فلم يأت بمثل هذا ناحية الرجل؛ لأن الكسب لا يريد هذه الأمور، بل يحتاج إلى القوة والعزم والشدة، فقول الله: (قوامون) يعني مبالغين في القيام على أمور النساء.
ويوضح للنساء: لا تذكرن فقط أنها حكاية زوج وزوجة. قدرن أن القيام يكون على أمر البنات والأخوات والأمهات. فلا يصح أن تأخذ (قوام) على أنها السيطرة؛ لأن مهمة القيام جاءت للرجل بمشقة، وهي مهمة صعبة عليه أن يبالغ في القيام على أمر من يتولى شئونهن.
{وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} فإذا كان الزواج متعة للأنثى وللذكر. والاثنان يستمتعان ويريدان استبقاء النوع في الذرية، فما دامت المتعة مشتركة وطلب الذرية أيضا مشتركا فالتبعات التي تترتب على ذلك لم تقع على كل منهما، ولكنها جاءت على الرجل فقط... صداقاً ونفقة حتى ولو كانت المرأة غنية لا يفرض عليها الشرع حتى أن تقرض زوجها.
إذا فقوامه الرجال جاءت للنساء براحة ومنعت عنهن المتاعب. فلماذا تحزن المرأة منها؟ ف {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} أي قائمون إقامة دائمة؛ لأنه لا يقال قوّام لمطلق قائم، فالقائم يؤدي مهمة لمرة واحدة، لكن (قوّام) تعين أنه مستمر في القوامة.
{الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} وما دمنا نكدح ونتعب للمرأة فلابد أن تكون للمرأة مهمة توازي ذلك وهي أن تكون سكناً له، وهذه فيها تفضيل أيضًا.
لقد قدم الحق سبحانه وتعالى في صدر الآية مقدمة بحكم يجب أن يُلتزم به؛ لأنه حكم الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه، فأوضح القضية الإيمانية: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} ثم جاء بالحيثيات فقال: {بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ويتابع الحق: {فالصالحات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ} والمرأة الصالحة هي المرأة التي استقامت على المنهج الذي وضعه لها من خلقها في نوعها، فما دامت هي صالحة تكون قانتة، والقنوت هو دوام الطاعة لله، ومنه قنوت الفجر الذي نقنته، وندعو ونقف مدة أطول في الصلاة التي فيها قنوت.
والمرأة القانتة خاضعة لله، إذن فحين تكون خاضعة لله تلتزم منهج الله وأمره فيما حكم به من أن الرجال قوامون على النساء، {فالصالحات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ} وحافظات للغيب تدل على سلامة العفة.
فالمرأة حين يغيب عنها الراعي لها والحامي لعرضها كالأب بالنسبة للبنت والابن بالنسبة للأم، والزوج بالنسبة للزوجة، فكل امرأة في ولاية أحد لابد أن تحفظ غيبته؛ ولذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما حدد المرأة الصالحة قال في حديث عن الدنيا: (الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة).
لقد وضع صلى الله عليه وسلم قانوناً للمرأة الصالحة يقول فيه: (خير النساء التي تسرّه إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره).
وأي شيء يحتاج الرجل إليه أحسن من ذلك. وكلمة (إن نظرت إليها سرّتك) إياك أن توجهها ناحية الجمال فقط، جمال المبنى، لا، فساعة تراها اجمع كل صفات الخير فيها ولا تأخذ صفة ولا تترك صفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من أن نأخذ صفة في المرأة ونترك صفة أخرى، بل لابد أن نأخذها في مجموع صفاتها فقال: (تنكح المرأة لأربع: لما لها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك).
المطلوب ألا تنظر إلى زاوية واحدة في الجمال، بل انظر إلى كل الزوايا، فلو نظرت إلى الزاوية التي تشغل الناس، الزاوية الجمالية، لوجدتها أقل الزوايا بالنسبة إلى تكوين المرأة؛ لأن عمر هذه المسألة (شهر عسل)- كما يقولون- وتنتهي، ثم بعد ذلك تبدو المقومات الأخرى. فإن دخلت على مقوم واحد وهي أن تكون جميلة فأنت تخدع نفسك، وتظن أنك تريدها سيدة صالون! ونقول لك: هذه الصفة أمدها بسيط في عمر الزمن، لكن ما يبقى لك هو أن تكون أمينة، أن تكون مخلصة، أن تكون مدبرة؛ ولذلك فالفشل ينشأ في الأسرة من أن الرجال يدخلون على الزواج بمقياس واحد هو مقياس جمال البنية، وهذا المقياس الواحد عمره قصير، يذهب بعد فترة وتهدأ شِرَّته، وبعد ذلك تستيقظ عيون الرجل لتتطلع إلى نواحي الجمال الأخرى، فلا يجدها. فيحدث الفشل؛ لذلك لابد أن تأخذ مجموعة الزوايا كلها. إياك أن تأخذ زاوية واحدة، وخير الزوايا أن يكون لها دين. وكذلك المقياس بالنسبة لقبول المرأة للزوج، أيضاً خير الزوايا أن يكون له دين، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض).
وعندما استشار رجل سيدنا الحسن بن علي- رضي الله عنهما- قال: زَوّجها من ذي الدين، إن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها.
إذن فالدين يرشدنا: لابد أن ننظر إلى المسألة التي سيكون لها عمر طويل في الحياة الممتدة، وبعد ذلك إذا أرادت أن تكون ناجحه فعليها أن ترى إطار نوعيتها وتنبغ فيه، ومن الممكن إن كان عندها وقت أن توسع دائرة مهمتها في بيتها، فإذا كان عندها أولاد فعليها أن تتعلم الحياكة وتقوم بتفصيل وحياكة ملابسها وملابس أولادها فتوفر النقود، أو تتعلم التطريز كي لا تدفع أجرة، أو تتعلم التمريض حتى إذا مرض ولدها استطاعت أن تمرضه وترعاه، أن تتعلم كي تغني عن مدرس خصوصي يأخذ نقوداً من دخل الأسرة، وإن بقي عندها وقت فلتتعلم السباكة لتوفر أجرة السباك إذا فسد صنبور ماء، أو تتعلم إصلاح الكهرباء لتصلح مفتاح الإضاءة.
وتستطيع المرأة أن تقوم بأي عمل وهي جالسة في بيتها وتوفر دخلا لتقابل به المهام التي لا تقدر أن تفعلها، والمرأة تكون من (حافظات الغيب) ليس بارتجالٍ من عندها أو باختيار، بل بالمنهج الذي وضعه الله لحفظ الغيب؟
فما المنهج الذي وضعه الله لحفظ الغيب؟ تحافظ على عرضها وعلى مال زوجها في غيبته، فتنظر المنافذ التي تأتي منها الفتنة وتمتنع عنها، لا تخرج إلى الشوارع إلا لحاجة ماسة أو ضرورة كي لا ترى أحداً يفتنها أو يفتن بها؛ لأن هذه هي مقدمات الحفظ، ولا تذهب في زحمة الحياة، وبعد ذلك نقول لها: (حافظي على الغيب) بل عليها أن تنظر ما بيّنه الله في ذلك. فإن اضطررت أن تخرجي فلتغضي البصر؛ ولذلك قال سبحانه: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31].
فالمرأة إن لم تغض النظر يحدث التفات عاطفي؛ لأن كل شعور في الإنسان له ثلاث مراحل: مرحلة أن يدرك، ومرحلة أن يجد في نفسه، ومرحلة أن ينزع، أي يحول الأمر إلى سلوك، ونضرب دائماً المثل بالوردة. وأنت تسير ترى وردة في بستان وبمجرد رؤيتك لها فهذا إدراك، وإذا أعجبتك الوردة وعشقتها وأحببتها فهذا اسمه وجدان. وإذا اتجهت لتقطفها فهذه عملية نزوعية، فكم مرحلة؟ ثلاث مراحل: إدراك، فوجدان. فنزوع.
ومتى يتدخل الشرع؟ الشرع يتدخل في عملية النزوع دائماً. يقول لك: أنت نظرت الوردة ولم نعترض على ذلك، أحببتها وأعجبتك فلم نقل لك شيئاً، لكن ساعة جئت لتمدّ يدك لتأخذها قلنا لك: لا، الوردة ليست لك.
إذن فأنت حرّ في أن تدرك، وحرّ في أن تجد في نفسك، إنما ساعة تنزع نقول لك: لا، هي ليست لك، وإن أعجبتك فازرع لك وردة في البيت، أو استأذن صاحبها مثلًا.
إذن فالتشريع يتدخل في منطقة النزوع، إلا في أمر المرأة فالتشريع يتدخل من أول الإدراك؛ لأن الذي خلقنا علم أننا إن أدركنا جمالاً، نظرنا له، وستتولد عندنا مواجيد بالنسبة للأشياء التي نراها ونشتهيها، وساعة يوجد إدراك واشتهاء، لا يمكن أن ينفصل هذا عن النزوع؛ لأنك- كرجل- مركب تركيباً كيميائياً بحيث إذ أدركت جمالاً ثم حدث لك وجدان واشتهاء، فالاشتهاء لا يهدأ إلا بنزوع، فيبيّن لك الشرع: أنا رحمتك من أول الأمر، وتدخلت من أول المسألة.
وكل شيء أتدخل فيه عند النزوع إلا المرأة فقد تدخلت فيها من أول الإدراك؛ لذلك أمر الحق الرجل أن يغض البصر، وكذلك أمر المرأة.
لماذا؟ لأنك إن أدركت فستجد، وإن وجدت فستحاول أن تنزع ونزوعك سيكون عربدة في أعراض الناس، وإن لم تنزع فسيبقى عندك كبت؛ لذلك حسم الحق المسألة من أولها قال: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلك أزكى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30-31].
فامنعو المسألة من أول مراحلها لماذا؟ لأنني عندما أرى وردة، ثم قالوا لي: هي ليست لك فلا تقطفها، فلا يحدث عندي ارتباك في مادتي، لكن عندما يرى الرجل امرأة جميلة وتدخل في وجدانه فسيحدث عنده النزوع؛ لأن له أجهزة مخصوصة تنفعل لهذا الجمال، ولذلك يوضح لك الحق: أنا خالقك وسأتدخل في المسألة من أول الأمر، فقوله: {بِمَا حَفِظَ الله} أي بالمنهج الذي وضعه الله للحفظ: ألا أعرض نفسي إلى إدراك، فينشأ عنه وجدان، وبعد ذلك أفكر في النزوع، فإن نزعت أفسدت، وإن لم تنزع تعقدت، فيأتي شرّ من ذلك، هذا معنى: {بِمَا حَفِظَ الله}، يعني انظروا إلى المنهج الذي وضعه الله لأن تحفظ المرأة غيبة زوجها، وهي تحفظه ليس بمنهج من عندها. بل بالمنهج الذي وضعه خالقها وخالقه.
وها هو ذا الحق سبحانه وتعالى حينما يربّى من عبده حاسة اليقظة قال: {واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} فالنشوز لم يحدث بل مخافة أن يحدث، فاليقظة تقتضي الترقب من أول الأمر، لا تترك المسألة حتى يحدث النشوز، و(النشوز) من (نشز) أي ارتفع في المكان. ومنه (النشز) وهو المكان المرتفع، وما دام الحق قد قال: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} فالمعنى هنا: مَن تريد أن تتعالى وتوضع في مكانة عالية؟؛ ولذلك فالنشاز حتى في النغم هو: صوت خارج عن قواعد النغم فيقولون: هذه النغمة النشاز، أي خرجت عن قاعدة النغمة التي سبقتها. وكذلك المرأة المفروض فيها أنها تكون متطامنة، فإن شعرت أن في بالها أن تتعالى فإياك أن تتركها إلى أن تصعد إلى الربوة وترتفع. بل عليك التصرف من أول ما تشعر ببوادر النشوز فتمنعه، ومعنى قوله: {واللاتي تَخَافُونَ} يعني أن النشوز أمر متخوف منه ومتوقع ولم يحدث بعد.
وكيف يكون العلاج؟ يقول الحق: (فعظوهن) أي ساعة تراها تنوي هذا فعظها، والوعظ: النصح بالرقة والرفق، قالوا في النصح بالرقة: أن تنتهز فرصة انسجام المرأة معك، وتنصحها في الظرف المناسب لكي يكون الوعظ والإرشاد مقبولاً فلا تأت لإنسان وتعظه إلا وقلبه متعلق بك.
ولنفترض أن ابناً طلب من والده طلباً، ولم يحضره الأب، ثم جاءت الأم لتشكو للأب سلوك الابن، فيحاول الأب إحضار الطلب الذي تمناه الابن، ويقول له:
- تعال هنا يا بني، إن الله قد وفقني أن أحضر لك ما طلبت.
وفي لحظة فرح الابن بالحصول على ما تمنى، يقول له الأب: لو تذكرت ما قالته لي أمك من سلوكك الرديء لما أحضرته لك.
ولو سب الأب ابنه في هذه اللحظة فإن الابن يضحك.
لماذا؟ لأن الأب أعطى الابن الدرس والعظة في وقت ارتباط قلبه وعاطفته به. ولكن نحن نفعل غير ذلك. فالواحد يأتي للولد في الوقت الذي يكون هناك نفور بينهما، ويحاول أن يعظه؛ لذلك لا تنفع الموعظة، وإذا أردنا أن تنفع الموعظة يجب أن نغير من أنفسنا، وأن ننتهز فرصة التصاق عواطف من نرغب في وعظه فنأتي ونعطي العظة.
هكذا (فعظوهن) هذه معناها: برفق وبلطف، ومن الرفق واللطف أن تختار وقت العظة، وتعرف وقت العظة عندما يكون هناك انسجام، فإن لم تنفع هذه العظة ورأيت الأمر داخلاً إلى ناحية الربوة؛ والنشوز فانتبه. والمرأة عادة تَدِل على الرجل بما يعرف فيه من إقباله عليها. وقد تصبر المرأة على الرجل أكثر من صبر الرجل عليها؛ لأن تكوين الرجل له جهاز لا يهدأ إلا أن يفعل. لكن المرأة تستثار ببطء، فعندما تنفعل أجهزة الرجل فهو لا يقدر أن يصبر، لكن المرأة لا تنفعل ولا تستثار بسرعة، فأنت ساعة ترى هذه الحكاية، وهي تعرفك أنك رجل تحب نتائج العواطف والاسترسال؛ فأعط لها درساً في هذه الناحية، اهجرها في المضجع.
وانظر إلى الدقة، لا تهجرها في البيت، لا تهجرها في الحجرة، بل تنام في جانب وهي في جانب آخر، حتى لا تفضح ما بينكما من غضب، اهجرها في المضجع؛ لأنك إن هجرتها وكل البيت علم أنك تنام في حجرة مستقلة أو تركت البيت وهربت، فأنت تثير فيها غريزة العناد، لكن عندما تهجرها في المضجع فذلك أمرٍ يكون بينك وبينها فقط، وسيأتيها ظرف عاطفي فتتغاضى، وسيأتيك أنت أيضاً ظرف عاطفي فتتغاضى، وقد يتمنى كل منكما أن يصالح الآخر.
إذن فقوله: {واهجروهن فِي المضاجع} كأنك تقول لها: إن كنت سَتُدِلِّينَ بهذه فأنا أقدر على نفسي. ويتساءل بعضهم: وماذا يعني بأن يهجرها في المضاجع؟. نقول: ما دام المضجع واحداً فليعطها ظهره وبشرط ألا يفضح المسألة، بل ينام على السرير وتُغلق الحجرة عليهما ولا يعرف أحد شيئاً؛ لأن أي خلاف بين الرجل والمرأة إن ظل بينهما فهو ينتهي إلى أقرب وقت، وساعة يخرج الرجل وعواطفه تلتهب قليلاً، يرجع ويتلمسها، وهي أيضاً تتلمسه.
والذي يفسد البيوت أن عناصر من الخارج تتدخل، وهذه العناصر تورث في المرأة عناداً وفي الرجل عناداً؛ لذلك لا يصح أن يفضح الرجل ما بينه وبينه المرأة عند الأم والأب والأخ، ولنجعل الخلاف دائماً محصوراً بين الرجل والمرأة فقط. فهناك أمر بينهما سيلجئهما إلى أن يتسامحا معًا.
{فَعِظُوهُنَّ واهجروهن فِي المضاجع واضربوهن} وقالوا: إن الضرب بشرط ألا يسيل دما ولا يكسر عظما.. أي يكون ضرباً خفيفاً يدل على عدم الرضا؛ ولذلك فبعض العلماء قالوا: يضربها بالسواك.
وعلمنا ربنا هذا الأمر في قصة سيدنا أيوب عندما حلف أن يضرب امرأته مائة جلدة، قال له ربنا: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} [ص: 44].
والضغث هو الحزمة من الحشيش يكون فيها مائة عود، ويضربها ضربة واحدة فكأنه ضربها مائة ضربة وانتهت. فالمرأة عندما تجد الضرب مشوباً بحنان الضارب فهي تطيع من نفسها، وعلى كل حال فإياكم أن تفهموا أن الذي خلقنا يشرع حكماً تأباه العواطف، إنما يأباه كبرياء العواطف، فالذي شرع وقال هذا لابد أن يكون هكذا.
{واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ واهجروهن فِي المضاجع واضربوهن} أي ضرباً غير مبرح، ومعنى: غير مبرح أي ألا يسيل دماً أو يكسر عظماً ويتابع الحق: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً}.
فالمسألة ليست استذلالاً. بل إصلاحا وتقويما، وأنت لك الظاهر من أمرها، إياك أن تقول: إنها تطيعني لكن قلبها ليس معي؛ وتدخل في دوامة الغيب، نقول لك: ليس لك شأن لأن المحكوم عليه في كل التصرفات هو ظاهر الأحداث. أما باطن الأحداث فليس لك به شأن ما دام الحق قال: {أطعنكم}؛ فظاهر الحدث إذن أن المسألة انتهت ولا نشوز تخافه، وأنت إن بغيت عليها سبيلاً بعد أن أطاعتك، كنت قوياً عليها فيجب أن تتنبه إلى أن الذي أحلها لك بكلمة هو أقوى عليك منك عليها وهذا تهديد من الله.
ومعنى التهديد من الله لنا أنه أوضح: هذه صنعتي، وأنا الذي جعلتك تأخذها بكلمتيّ زوجني.. زوجتك.. وما دمت قد ملكتها بكلمة مني فلا تتعال عليها؛ لأنني كما حميت حقك أحمى حقها. فلا أحد منكما أولى بي من الآخر، لأنكما صنعتي وأنا أريد أن تستقر الأمور، وبعد هذا الخطاب للأزواج يأتي خطاب جديد في قول الحق من بعد ذلك: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا...}.