أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟!
فما منا من أحد إلا وله من قدح فيه أو تعدى عليه أو تعرض له، فمن يطمع بالسلامة من الخلق، والخالق سبحانه لم يسلم منهم؟! فما من أحدٍ أوذي أكثر من الله، ويكفي أنه خلقهم ويعبدون غيره، ورزقهم ويشكرون سواه، ودبر أمرهم ويتسخطون قدره ويتعرضون لله بالأذى، فما قطع رزقه عنهم، وما عاجلهم بعقوبته لهم، فسبحانه على صبره وحلمه بعد قدرته وعلمه!
وما من أحد من الخلق أوذي أعظم من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فهو الصابر على الأذى، فلم يكن ليغضب لنفسه فضلًا عن أن ينتقم لها!
والأنبياء عانوا من صنوف البلاء وضروب العناء من السفلة الدهماء ما يفوق الوصف والخيال، فما سمعنا عن أحد منهم أنه انتقم لنفسه أو عاجل الخلق بدعوته أو بادر معاديه بحربه وسطوته، وإنما أمهلوهم، وصبروا عليهم، ولانوا لهم، ولم ينالوا منهم، لينقذهم الله من النار بهم، فصلى الله على الأنبياء والمرسلين، وحشرنا في زمرتهم يوم القيامة والدين.
وعلى طريق الخير سار أصحاب معلم الناس الخير صلى الله عليه وسلم فكانوا السادة والقادة بما بذلوا من دمائهم وأموالهم وأعراضهم وما يملكون لدينهم، وآثروا الآخرة الباقية على الدنيا الفانية، ولهم في ذلك مآثر ومفاخر، يطول الوصف لها والحديث عنها.
وحسبي في هذا المقام أن أذكر عبرة واحدة من عبرهم ومزيد فضلهم وترادف بذلهم لدينهم وآخرتهم، وما ظنك بقوم تصدقوا بما يملكون مما في أيديهم، ثم لما انتهى ما باليد، تصدقوا بأعراضهم لله يرجون تجارة لن تبور، ويكفيك في هذا أن تقرأ هذا الخبر:
فعن علبة بن زيد رضي الله عنه أنه قام من الليل يصلي، فتهجد ما شاء الله، ثم بكى، وقال: اللهم إنَّك أمرت بالجهاد ورغَّبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوَّى به، ولم تجعل في يد رسولك صلى الله عليه وسلم ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض. وأصبح الرجل من الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين المتصدق هذه الليلة؟". فلم يقم أحد، ثم قال: "أين المتصدق؟ فليقم". فقام إليه فأخبره. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَبْشِرْ، فوالذي نفسي بيدِه لقد كُتِبَتْ في الزكاةِ المُتَقَبَّلَةِ" .
وعن قتادة رضي الله عنه قال: "أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَبِي ضَيْغَمٍ أَوْ ضَمْضَمٍ -شَكَّ ابْنُ عُبَيْدٍ، كَانَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِكَ" .
فهل يكفيك هذا لتسامح من جرحك أو تغفر لمن ظلمك أن تعطف على من حرمك؟!
إنها صدقة لا تحتاج إلى مال؛ فتبخل، ولا إلى جهد؛ فتكسل، ولا إلى شجاعة؛ فتجبن، ولا إلى قوة؛ فتضعف، وإنما يحتاج إلى قوة إيمان، ويقين بما عند الله رب العالمين، وثقة بالأجور من العزيز الغفور، ثم لا تسل عن قلبك ما أسلمه! وصدرك ما أفسحه! ووقتك ما أبركه! وعملك ما أكثره وأكبره!