تفسير الشعراوي للآية 12 من سورة النساء

إسلاميات

الشيخ محمد متولي
الشيخ محمد متولي الشعراوي


{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)}.

والآيات تسير في إيضاح حق الذكر مثل حظ الأنثيين؛ وهذه عدالة؛ لأن الرجل حين تموت امرأته قد يتزوج حتى يبني حياته، والمرأة حين يموت زوجها فإنها تأخذ ميراثها منه وهي عرضة أن تتزوج وتكون مسئولة من الزوج الجديد.

إن المسألة كما أرادها الله تحقق العدالة الكاملة. والكلالة- كما قلنا- أنه ليس للمتوفى والد أو ولد، أي لا أصل له ولا فصل متفرع منه.

فإذا كان للرجل الكلالة أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء بالثلث، وذلك أيضا من بعد الوصية التي يوصى بها أو دين. ولماذا يتم تقرير هذا الأمر؟ لنرجع مرة أخرى إلى آية الكلالة التي جاءت في آخر سورة النساء.

إن الحق يقول فيها: {فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] في الآية الأولى التي نحن بصددها يكون للواحد من الإخوة سدس ما ترك إذا انفرد، فإذا كان معه غيره فهم شركاء في الثلث. هذا إذا كانوا إخوة من الأم. أما الآية التي يختص بها الحق الأختين بالثلثين من التركة إذا لم يكن معهما ما يعصبهما من الذكور فهي في الإخوة الأشقاء أو الأب، هكذا يفصل القرآن ويوضح بدقة مطلقة.

وماذا يعني قوله الحق: {غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ الله والله عَلِيمٌ حَلِيم}؟

إنه سبحانه يريد إقامة العدل، فلا ضرر لأحد على الإطلاق في تطبيق شرع الله؛ لأن الضرر إنما يأتي من الأهواء التي تفسد قسمة الله. فقد يكون هناك من يرغب ألا يرث العم من بنات أخيه الشقيق، أو لأب، أو يريد آخر ألا يُدخل أولاد الإخوة الذكور أشقاء أو لأب في ميراث العمة أو بنات العم الشقيق أو لأب، لمثل هؤلاء من أصحاب الهوى نقول: إن الغرم على قدر الغنم، بالله لو أنك مت وتركت بنات ولهنّ عمّ، أليس مطلوبا من العم أن يربي البنات؟ فلماذا يجبر الحق العم على رعاية بنات أخيه إن توفي الأخ ولم يترك شيئا؟ لذلك يجب أن تلتفت إلى حقيقة الأمر عندما يأتي نصيب للعم في الميراث. وعلينا أن نعرف أن الغرم أمامه الغنم.

وقلنا: إن القرآن الكريم يجب أن يؤخذ جميعه فيما يتعلق بالأحكام، فإذا كان في سورة النساء هذه يقول الحق سبحانه وتعالى في آخر آية منها: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] فما الفرق بين الكلالة حين يجعل الله للمنفردة النصف وللاثنتين الثلثين، وبين الكلالة التي يجعل الله فيها للمنفرد السدس، ويجعل للأكثر من فرد الاشتراك في الثلث دون تمييز للذكر على الأنثى؟

لابد أن نفرق بين كلالة وكلالة.

هما متحدتان في أنه لا أصل ولا فرع للمتوفيي. والمسألة هنا تتعلق بالإخوة.

ونقول: إن الإخوة لها مصادر متعددة. هذه المصادر إما إخوة من أب وأم، وإما أخوة لأب، وإما إخوة لأم. فإذا كان أخ شقيق أو لأب فهو من العصبة الأصلية، وهما المعنيان في الآية 176 من السورة نفسها.

وبذلك تكون آية السدس والثلث التي نحن بصددها الآن متعلقة بالإخوة لأم. إذن فالكلالة إما أن يكون الوارث أخا لأم فقط، وإما أن يكون أخا لأب، أو أخا لأب وأم. فالحكمان لذلك مختلفان؛ لأن موضع كل منهما مختلف عن الآخر. وإلا لو أن مستشرقا قرأ هذه الآية وقرأ الآية الأخرى وكلتاهما متعلقتان بميراث الكلالة، وأراد هذا المستشرق أن يبحث عن شيء يطعن به ديننا ويطعن به القرآن لقال- والعياذ بالله- القرآن متضارب، فهو مرة يقول: للكلالة السدس، ومرة يقول: الثلث، ومرة أخرى النصف، ومرة أخرى الثلثان، ومرة للذكر مثل حظ الأنثيين! ونرد على من يقول ذلك: أنت لم تلاحظ المقصود الفعلي والواقعي للكلالة؛ لذلك فأنت تفهم شيئا وتغيب عنك أشياء.

والحق قال: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} ولنا أن نلاحظ أن في كل توريث هذه (البعدية) أي أن التوريث لا يأتي إلا من بعد الوصية الواجبة النفاذ والدّين.

ولنا أن نسأل: أيهما ينفذ أولا، الوصية أم الدين؟

والإجابة: لاشك أنه الدين؛ لأن الدين إلزام بحق في الذمة، والوصية تطوع، فكيف تقدم الوصية- وهي التطوع- على الدين، وهو للإلزام في الذمة.

وعندما يقول: {غَيْرَ مُضَآرٍّ} لابد أن نعرف جيدا أن شرع الله لن يضر أحدا، وما المقصود بذلك؟ المقصود به الموصي، ففي بعض الأحيان يكون المورث كارها لبعض المستحقين لحقهم في ميراثه، فيأتي ليوصي بمنع توريثهم أو تقليل الأنصباء، أو يأتي لواحد بعيد يريد أن يعطيه شيئا من الميراث ولا يعطي لمن يكرهه من أهله وأقاربه المستحقين في ميراثه، فيقر لذلك الإنسان بدين، فإذا ما أقر له بدين حتى وإن كان مستغرقا للتركة كلها، فهو يأخذ الدين وبذلك يترك الورثة بلا ميراث.

وهذا يحدث في الحياة ونراه، فبعض من الناس أعطاهم الله البنات ولم يعطيهم الله ولدا ذكرا يعصّبهم، فيقول الواحد من هؤلاء لنفسه: إن الأعمام ستدخل، وأبناء الأعمام سيدخلون في ميراثي، فيريد أن يوزع التركة على بناته فقط، فيكتب دينا على نفسه للبنات.

ونقول لهذا الإنسان: لا تجحف، أنت نظرت إلى أن هؤلاء يرثون منك، ولكن يجب أن تنظر إلى الطرف المقابل وهو أنك إذا مت ولم تترك لبناتك شيئا وهن لا عصبة لهن، فمن المسئول عنهن؟ إنهم الأعمام، فالغرم هنا مقابل الغنم.. ولماذا تطلب البنات الأعمام أمام القضاء ليأخذن النفقة منهم في حالة وفاة الأب دون أن يترك له ثروة. فكيف تمنع عن إخوتك ما قرره الله لهم؟

وهنا بعض من الناس يرغب الواحد منهم ألا يعطي عمومته أو إخوته لأي سبب من الأسباب، فماذا يفعل؟ إنه يضع الوصية؛ لذلك حدد الإسلام الوصية بمقدار الثلث، حتى لا تحدث مضارة للورثة.

وقد حاول البعض من هؤلاء الناس أن يدّعوا كذبا، أن هناك دينا عليهم، والدين مستغرق للتركة حتى لا يأخذ الأقارب شيئا.

والإنسان في هذا الموقف عليه أن يعرف أنه واقف في كل لحظة في الحياة أو الممات أمام الله، وكل إنسان أمين على نفسه.

لذلك قال الحق سبحانه: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 11] والحق يلفتنا ألا نضر أحدا بأي تصرف؛ لأنها توصية من الله لكل ما يتعلق بالحكم توريثا ووصية وآداء دين، كل ذلك توصية من الله، والتوصية ليست من مخلوق لمخلوق، ولكنها من الله؛ ففيها إلزام وفرض، فسبحانه القائل: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13] والوصية هنا افتراض، ومثل ذلك يقول الحق: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151] وما دامت التوصية تأتي من المالك الأعلى، فمعنى ذلك أنها افتراض، ويذيل الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد تناولها بالخواطر الإيمانية: {والله عَلِيمٌ حَلِيم} أي إياكم أن تتصرفوا تصرفا قد يقره ويمضيه القضاء، ولكنه لا يبرئكم أمام الله؛ لأنه قد قام على باطل.

مثال ذلك: هناك إنسان يموت وعليه دين، عندئذ يجب تسديد الدين، لكن أن يكتب الرجل دينا على نفسه غير حقيقي ليحرم بعضا من أقاربه من الميراث فعليه أن يعرف أن الله عليم بالنوايا التي وراء التصرفات. فإن عّميتم أيها البشر على قضاء الأرض، فلن تعموا على قضاء السماء.

وهذه مسألة تحتاج إلى علم يتغلغل في النوايا، إذن فمسألة القضاء هذه هي خلاف بين البشر والبشر، ولكن مسألة الديانة وما يفترضه الحق، فهو موضوع بين الرب وبين عبيده، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث شريف: (إنما أنا بشر وأنكم تختصمون إليّ، فلعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضى له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها).

إن الرسول يعلمنا أنه بشر، أي أنه لا يملك علم الغيب ومداخل المسائل، وعندما يرفع المسلمون إليه قضاياهم فقد يكون أحدهم أكثر قدرة على الفصاحة وذلاقة اللسان، ويستطيع أن يقلب الباطل حقا، والآخر قليل الحيلة، فيحكم النبي بمقتضى البينة القضائية، ولكن الأمر الواقع يتنافى مع تسلسل الحق؛ لذلك يعلمنا أنه بشر، وأننا حين نختصم إليه يجب ألا يستخدم واحد منا ذلاقة اللسان في أخذ ما ليس له؛ لأنه حتى لو أخذ شيئا ليس له بحكم من الرسول صلى الله عليه وسلم، فليعلم أنه يأخذ قطعة من الجحيم.

إذن فمعنى ذلك أنه يجب علينا أن نحذر في الأمور، فلا نعمي ولا نأخذ شيئا بسلطان القضاء ونهمل مسألة الديانة. فالأمور التي تتعلق بالدّين لا يجوز للمؤمن المساس بها، إياكم أن تظنوا أن حكم أي حاكم يحلل حراما أو يحرم حلالا، لا. فالحلال بيّن، والحرام بيّن، والقاضي عليه أن يحكم بالبينات الواضحة.

ومثال على ذلك: هب أنك اقترضت من واحد ألفا من الجنيهات، وأخذ عليك صكا، ثم جاء المقترض وسدد ما عليه من قرض وقال لمن اقترض منه: (عندما تذهب إلى منزلك أرجو أن ترسل لي الصك) ثم سبق قضاء الله، وقال أهل الميت: (إن الصك عندنا) واحتكموا إلى القضاء ليأخذوا الدّين. هنا يحكم القضاء بضرورة تسديد الدين مرة أخرى، لكن حكم الدّين في ذلك يختلف، فالرجل قد سدد الدين ولا يصح أبدا أن يأخذ الورثة الدّين مرة أخرى إذا علموا أن مورثهم حصل على دينه.

وذلك يقول لنا الحق: {والله عَلِيمٌ حَلِيم} حتى نفرق بين الديانة وبين القضاء. والحق يقول لنا: إنه {حَلِيم} فإياك أن تغتر بأن واحدا حدث منه ذلك، ولم ينتقم الله منه في الدنيا، فعدم انتقام الله منه في الدنيا لا يدل على أنه تصرف حلالا، لكن هذا حلم من الله وإمهال وإرجاء ولكنّ هناك عقابا في الآخرة.

وبعد بيان هذه الأمور يقول الحق سبحانه وتعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله...}.