تفسير الشعراوي للآية 286 من سورة البقرة

إسلاميات

الشيخ الشعراوي -
الشيخ الشعراوي - أرشيفية


{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}.

{لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} إنّه سبحانه لم يكلفكم إلا ما هو في الوسع. لماذا؟ لأن الأحداث بالنسبة لعزم النفس البشرية ثلاثة أقسام: القسم الأول: هو ما لا قدرة لنا عليه، وهذا بعيد عن التكليف. القسم الثاني: لنا قدرة عليه لكن بمشقة أي يجهد طاقتنا قليلا. القسم الثالث: التكليف بالوسع. إذن {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} أي أن الحق لا يكلف النفس إلا بتكليف تكون فيه طاقتها أوسع من التكليف، كلف الحق كل مسلم بالصلاة خمسة فروض كل يوم، وتملأ أوقاتها بالصلاة وكان من الممكن أن تكون عشرة، بدليل أن هناك أناساً تتطوع وهو سبحانه كلف كل مسلم بالصوم شهراً، ألا يوجد من يصوم ثلاثة أشهر؟ ومثل هذا في الزكاة؛ فهناك من كان يخرج عن ماله كله لله، ولا يقتصر على ما يجب عليه من زكاة.

إذن فهذا في الوسع، ومن الممكن أن تزيد، إذن فالأشياء ثلاثة: شيء لا يدخل في القدرة فلا تكليف به، شيء يدخل في القدرة بشيء من التعب، وشيء في الوسع، والحق حين كلف، كلف ما في الوسع. ومادام كلف ما في الوسع فإن تطوعت أنت بأمر زائد فهذا موضوع آخر {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} مادمت تتطوع من جنس ما فرض.

إذن فالتكليف في الوسع وإلا لو لم يكن في الوسع لما تطوعت بالزيادة. فسبحانه يقول: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} ويأتي بعد ذلك ليعلمنا فيقول: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}، وهو القائل: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} إذن سبحانه يكلفنا بما نقدر عليه ونطيقه.

فقد روي أن الله حينما سمع رسوله وسمع المؤمنين يقولون: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا} قال سبحانه: قد فعلت.

وعندما قالوا: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال سبحانه: قد فعلت. ولم يكلفنا سبحانه إلا بما في الوسع، وهو القدر المشترك عند كل المؤمنين. وهناك أناس تكون همتهم أوسع من همة غيرهم، ومن تتسع همته فإنه يدخل بالعبادات التي يزيد منها في باب التطوع، ومن لا تتسع همته فهو يؤدي الفروض المطلوبة منه فقط وعندما يطرأ على الإنسان ما يجعل الحكم في غير الوسع؛ فإن الله يخفف التكليف؛ فالمسافر تقول له الشريعة: أنت تخرج عن حياتك الرتيبة، وتذهب إلى أماكن ليس لك بها مستقر، لذلك يخفف الحق عليك التكليف؛ فلك أن تفطر في نهار رمضان، ولك أن تُقصر الصلاة.

والحق سبحانه يعلم أن الوسع قد يضيق لذلك فإنه جل شأنه يخفف حكم التكليف ويمنح الرخص عند ضيق الوسع، ومثال ذلك قوله الحق: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّأْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} [الأنفال: 66].

كانت النسبة في القتال قبل هذه الآية هي واحداً لعشرة، وخففها الحق وجعلها واحداً إلى اثنين لأن هناك ضعفا، وهكذا نرى أنه سبحانه سيخفف التكليف إذا ما زاد عن الوسع. وكثير من الناس يخطئون التفسير؛ فيقولون عن بعض التكاليف: إنها فوق وسعهم ولهؤلاء نقول: لا. لا تحدد أنت الوسع، ثم تقيس التكليف عليه، بل انظر هل كلفك أو لم يكلفك؟ فإذا كان قد كلفك الحق فاحكم بأنه كلفك بما في الوسع، وكل تكاليف الرحمن تدخل في الوسع {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت}.

و{لَهَا} تفيد الملكية والاختصاص وهي ما تُفيد وتُكْسِبُ النفسَ ثوابا، و{عَلَيْهَا} تفيد الوزر، ونلاحظ أن كل {لَهَا} جاءت مع {كَسَبَتْ}، وكل {عَلَيْهَا} جاءت مع {اكتسبت} إلا في آية واحدة يقول فيها الحق: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81].

وهنا وقفة في الأسلوب؛ لأن (كسب) تعني أن هناك فرقاً في المعالجة الفعلية الحدثية بينها وبين كلمة {اكتسبت}، لأن (اكتسب) فيها (افتعل) أي تكلف، وقام بفعل أخذ منه علاجاً، أما (كسب) فهو أمر طبيعي إذن ف (كسب) غير (اكتسب) وكل أفعال الخير تأتي كسباً لا اكتسابًا.

مثال ذلك عندما ينظر الرجل إلى زوجته، ويرى جمالها، فهل هو يفتعل شيئاً، أو أن ذلك أمر طبيعي؟ إنه أمر طبيعي، ولكن عندما ينظر الرجل إلى غير محارمه فإنه يرقب هل يرى أحد النظرة؟ وهل رآه أحد من الناس؟ وهل سينال سخرية واستهزاء على ذلك الفعل أو لا؟ لماذا؟ لأنه ارتكب عملاً مفتعلاً.

مثال آخر، إنسان يأكل من ماله، أو من مال أبيه، إنه يأكل كأمر طبيعي، أما من يدخل بستاناً ويريد أن يسرق منه فهو يتكلف ذلك الفعل، ويريد أن يستر نفسه، فصاحب الشر يفتعل، أما صاحب الخير فإن أفعاله سهلة لا افتعال فيها.. فالشر هو الذي يحتاج إلى افتعال.

والمصيبة الكبرى ألا يحتاج الشر إلى افتعال؛ لأن صاحبه يصير إلى بلادة الحس الإيماني، وتكون الشرور بالنسبة إليه سهلة؛ لأنه تعود عليها كثيراً، ويقول الحق: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته} إن الخطيئة تحيط به من كل ناحية، ولم يعد هناك منفذ، وهو لا يفتعل حتى صارت له ملكة في الشر؛ فاللص مثلاً في بداية عمله يخاف ويترقب، لكن عندما تصبح اللصوصية مهنته فإنه يحمل أدوات السرقة ويصير حسه متبلداً.

ففي المرحلة الأولى من الشر يكون أهل الشر في حياء من فعل الشر، وذلك دليل على أن ضمائرهم وقلوبهم مازال فيها بعض من خير، لكن عندما يعتبرون الشر حرفة وملكة فهنا المصيبة، وتحيط بكل منهم خطيئة وتطوقه ولا تجعل له منفذاً إلى الله ليتوب.

فالذي يلعب الميسر، أو طوقته خطيئة الفحش قد يقول فرحاً: (كانت سهرة الأمس رائعة)، أما الذي يرتكب الخطأ لأول مرة فإنه يقول: (كانت ليلة سوداء يا ليتها ما حدثت)، ويظل يؤنب نفسه ويلومها؛ لأنه تعب وأرهق نفسه؛ لأنه ارتكب الخطأ.

إذن فقول الحق: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} يوضح لنا أن فعل الشر هو الذي يحتاج إلى مجهود، فإن انتقلت المسألة من اكتسبت إلى كسبت فهذه هي الطامة الكبرى، ويكون قد أحاطت به خطيئته. ويكون على كل نفس ما اكتسبت. والعاقل هو من يكثر ما لنفسه، ولا ما عليها؛ لأن الذي يقول ذلك هو الحق العالم المالك الذي إليه المصير، فليس من هذا الأمر فِكاك. وبعد ذلك يقول الحق على لسان عباده المؤمنين: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا}، ولقائل أن يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم طمأننا، فقال: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه).

فكيف يأتي القرآن بشيء مرفوع عن الأمة الإسلامية ليدعو به الناس ربهم ليرفعه عنهم؟.
على مثل هذا القائل نرد: هل قال لك أحد: إن رفع الخطأ والنسيان والاستكراه كان من أول الأمر؟. لعل الرفع حدث بعد أن دعا الرسول والسابقون من المؤمنين، فما دام قد رُفِعَ بضم الراء وكسر الفاء وفتح العين فمعنى ذلك أنه كان موجوداً، إذن فلا يقولن أحد: كيف تدعو بشيء غير موجود. أو أن ذلك يدل على منتهى الصفاء الإيماني، أي الله يجب ألاّ يُعْصى إلا خطأ أو نسياناً، وأن الله لا يصح ولا يستقيم أن يُعصى قصداً؛ لأن الذي يعرف قدر الله حقاً، لا يليق منه أن يعصي الله إلا نسياناً أو خطأ؛ لأن الخالق هو المنعم بكل النعم، وبعد ذلك كلفنا، وكان يجب ألا نقصد المعصية. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى قد سمى ما حدث من آدم معصية مع أنه يقول: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115].

وسمى الله النسيان في قصة آدم معصية: {وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} فكان النسيان أولاً معصية، ولكن الله أكرم أمة محمد، فرفع عنها النسيان. وفي مسألة آدم هناك ملحظ يجب على المؤمن أن يتنبه إليه؛ فآدم خُلِقَ بيد الله، ونحن مخلوقون بقانون التكاثر، وآدم تلقى التكليف من الله مباشرة وليس بواسطة رسول، وكُلِّفَ بأمر واحد وهو ألا يأكل من الشجرة.

فإذا كان آدم مخلوقاً من الله مباشرة ومكلفاً من الله مباشرة، ولم يكلف إلا بأمر واحد وهو ألا يقرب هذه الشجرة، ولم تكن هناك تكاليف كثيرة فماذا نسى؟ وماذا تذكر؟ إنها معصية إذن. لقد كان النسيان بالنسبة لآدم معصية؛ لأنه مخلوق بيد الله. {قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75].

لذلك فلم يكن من المناسب أن ينسى هذا التكليف الواحد، وما كان يصح له أن ينسى، وَلَعلّ سيدنا آدم نُسِّيَ لحكمة يعلمها الله رُبَّما تكون ليعمر الأرض التي جعله الله خليفة فيها؛ أما بالنسبة لأمة محمد فحينما نقول: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} فكأننا يا رب نقدرك، حق قدرك، ولا نجترئ على عصيانك عمدا، وإن عصينا فإنما يكون العصيان نسياناً أوْ خطأ، وهذه معرفة لقدر الحق سبحانه وتعالى.

ولكن ما النسيان؟ وما الخطأ؟

أولاً فيه (أخْطَأ) وفيه (خَطِئَ) و(الخِطْء) لا يكون إلا إثما؛ لأنه تعمد ما لا ينبغي، فأنت تعلم قاعدة وتخطئ، والذي أخطأ قد لا يعرف القاعدة، فأنت تصوب له خطأه لأنه حاد عن الصواب.

ومثال ذلك: عندما تتعلم في المدرسة أن الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب وفي وسط السنة يصححون لك القاعدة حتى تستقر في ذهنك، إنما في أيام الامتحان أيصحح لك المدرس أم يؤاخذك؟ إنه يؤاخذك؛ لأنك درست طوال السنة هذه القاعدة، إذن ففيه خَطِئ وفيه أخطأ، فأخطأ مرة تأتي عن غير قصد؛ لأنه لا توجد قاعدة أنا خالفتها، أو لم أعرف القاعدة وإنما نطقت خطأ؛ لأنهم لم يقولوا لي، أو قالوا لي مرة ولم أتذكر، أي لم تستقر المسألة كملكة في نفسي؛ لأن التلميذ يخطئ في الفاعل والمفعول مدة طويلة، وبعد ذلك ينضج وتصير اللغة ملكة في نفسه إن كان مواظبا على صيانتها.

كان التلميذ في البداية يقول: قطع محمد الغصن، ولا يقولها مُشَكَّلةً ولكن يسكن الآخر في نهاية نطقه لاسم محمد، وساعة يتذكر القاعدة ينطقها (محمد) بالرفع وينطق (الغصن) بالنصب لماذا؟ لأنه ترد ثلاث قواعد على ذهنه، هذه فاعل والفاعل حكمه الرفع، فهي مرفوعة، فهو يمر بقضية عقلية، لكن بعدما يمر عليها يقرأها صحيحة وقد لا يتذكر القاعدة، فقد صارت المسألة ملكة لغوية عنده، هذه الملكة اللغوية مثلما نقول: (صارت آلية).

ومثال ذلك الصبي الذي يتعلم الخياطة، انظر كم من الوقت يمر ليتعلم كيف يمسك بخيط ليدخله في سم الإبرة، وقد يضربه معلمه أكثر من مرة ليتعلمها؛ وفتلة الخيط تنثني منه لأنها طويلة فيقصرها ثم لا تدخل في العين فيبرمها لتدخل، إنه يأخذ وقتا كثيرا ثم يعمل الغرزة فتخرج غير منتظمة وبعد ذلك يظل مدة، ثم يفعل كل هذه الأعمال بتلقائية وهو يتكلم مع غيره؛ لأن هذه الأعمال صارت ملكة ذاتية أي عملاً آليًّا.

والتدريب على العمل الذهني حسب قواعد محددة مثل تعلم اللغة نسميه ملكة. أما التدريب على عمل الجوارح مثل إدخال الخيط في سم الإبرة نسميه آلية.

وعلى سبيل المثال في العمل الذهني عندما تسأل سؤالاً في الفقه لطالب في الأزهر فإنه يحتار قليلا إلى أن يتعرف على الباب الذي فيه إجابة للسؤال، أما إذا سألت السؤال نفسه لعالم مدرب فبمجرد أن توجه له السؤال فإنه يقول لك الحكم والباب الذي فيه هذا الحكم، لقد صار الفقة بالنسبة للعالم ملكة.

ويقول الحق من بعد ذلك: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا} والإصر هو الشيء الثقيل الذي يثقل على الإنسان، ومثال ذلك الإصر الذي نزل على اليهود (إن أردتم التوبة فاقتلوا أنفسكم أو تصدقوا أو زكوا بربع أموالكم) لكن الله لم يعاملنا كما عامل الأمم السابقة علينا، وعندما نقول: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} فنحن نصدق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله نعم» ومعنى قال الله نعم أنه سبحانه وتعالى أجاب الدعاء برفع المشقة عن الأمة.

أي أن الله لن يحملنا ما لا طاقة لنا به. وعندما نقول: {واعف عَنَّا} فنحن نتوجه إلى الله ضارعين: أنت يا حق تعلم أننا مهما أوتينا من اليقظة الإيمانية والحرص الورعي فلن نستطيع أن نؤدي حقك كاملاً، ولذلك لا ندخل عليك إلا من باب أن تعفو عنا.

ومعنى العفو محو الأثر، كالسائر في الصحراء تترك قدماه علامة، وتأتي الريح لتزيل هذا الأثر. كأن هناك ذنباً والذنب له أثر، وأنت تطلب من الله أن يمحوا الذنب.

وعندما تقول: {واغفر لَنَا} فأنت تعرف أن من مظاهر التكوين البشري النية التي تريد أن تحول العزم إلى حيز السلوك والانفعال النزوعي؛ فالمسألة تحتاج منك إلى تدريب، ومثال ذلك، عندما يذنب واحد في حقك فلك أن ترد عليه الذنب بالذنب، ولك أن تكظم الغيظ، لكن يظل الغيظ موجوداً وأنت تحبسه، ولك أن تعفو.

لكن ماذا عن مثل هذا الأمر بالنسبة للخالق الذي له كمال القدرة؟ إن الله قد لا يعذب العبد المذنب ولكنه قد يظل غاضبا عليه، ومن منا قادر على أن يتحمل غضب الرب؟ لذلك نطلب المغفرة، ونقول: {واغفر لَنَا وارحمنآ} فنحن ندعوه سبحانه ألا يدخلنا في الذنب الذي يؤدي إلى غضبه والعياذ بالله علينا. فالعفو هو أن نرتكب ذنبا ونطلب من الله المغفرة، ولكن الرحمة هي الدعاء بألا يدخلنا في الذنب أصلا.

وعندما يقول الحق: {أَنتَ مَوْلاَنَا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} فهذا اعتراف بعبوديتنا له، وأنه الحق خالقنا ومتولي أمورنا وناصرنا، ومادام الحق هو ناصرنا، فهو ناصرنا على القوم الكافرين؛ فكان ختام سورة البقرة منسجما مع أول سورة البقرة في قوله: {الم ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.

في أول السورة ضرب الله المثل بالكافرين والمنافقين.. وفي ختامها يقول الحق دعاء على لسان المؤمنين: {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} هذا القول يدل على استدامة المعركة بين الإيمان والكفر، وأن المؤمن يأخذ أحكام الله دائما لينازل بها الكفر أيان وجد ذلك الكفر، ويثق المؤمن تمام الثقة أن الله متوليه؛ لأن الله مولى الذين آمنوا، أما الكافرون فلا مولى لهم. فإذا كان الله هو مولى المؤمن، وإذا كان الكافر لا مولى له، فمعنى ذلك أنه يجب أن تظل المعركة بين المؤمن والكافر قائمة، بحيث إذا رأى المؤمن اجتراءً على الإسلام في أي صورة من صوره فليثق بأن الله ناصره، وليثق بأن الله معه، وليثق المؤمن أن الله لا يطلب منه إلا أن ينفعل بحكمه وتأييده بالنصر؛ لأنه هو الذي يغلب فهو القائل جل وعلا: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ}.

يجب أن تظل دائما مؤمناً متيقظاً لعملية الكفر في أي لون من ألوانها؛ فهذا الكفر بعملياته يريد أن يشوه حركة الحياة وأن يتعب الكون، وأن يجعل القوانين الوضعية البشرية هي المسيطرة، كما يجب عليك أيها المؤمن أن تكون من المتقين الذين استهل بهم الله سورة البقرة، وبعد ذلك تسأل الله أن ينصرك دائماً على القوم الكافرين. هذا هو مسك الختام من سورة البقرة {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين}.

وختام السورة بهذا النص يوحي بأن الذي آمن يجب أن يعدي إيمانه بربه إلى الخلق جميعا، حتى تتساند حركة الحياة، ولا توجد فيها حركة مؤمن على هدى لتصطدم حركة كافر على ضلال؛ لأن في ذلك إرهاقاً للنفس البشرية، وتعطيلاً للقوى والمواهب التي أمد الله بها ذلك الإنسان الذي سخر من أجله كل الوجود، فلا يمكن أن يعيش الإنسان الذي سوّده الله وكرّمَه على سائر الخلق إلا في أمان واطمئنان وسلام وحركة تتعاون وتتساعد لتنهض بالمجتمع الذي تعيش فيه نهضة عمرانية تؤكد للإنسان حقاً أنه هو خليفة الله في الأرض.

ولا يكتفي الإيمان منا بأن يؤمن الفرد إيماناً يعزله عن بقية الوجود، لأنه يكون في ذلك قد خسر حركة الحياة في الدنيا، والله يريد له أن يأخذ الدنيا تخدمه كما شاء الله لها أن تكون خادمة، فحين يعدي المؤمن إيمانه إلى غيره ينتفع بخير الغير، وإن اكتفى بإيمان نفسه فقط وترك الغير في ضلالة، انتفع الغير بخير إيمانه وأصابته مضرة الكافر وأذاه.

إذن فمن الخير له أن يؤمن الناس جميعاً، ويجب أن يعدي ذلك الإيمان إلى الغير.
ولكن الغير قد يكون منتفعاً بالضلال؛ لأنه يؤدي به طغيانه، عندئذ تنشأ المعركة، تلك المعركة التي غاية كل من دخل فيها أن ينتصر، فيعلمنا الله أن نطلب النصر على الكافرين منه؛ لأن النصر على الكافرين لا يعتبر نصراًَ حقيقياً إلا إن أَصَّل صفات الخير في الوجود كله، وحين تتأصل صفات الخير في الوجود كله يكون المؤمن قد انتصر بحق.

وحين يطلب منا الله أن نسأله أن ينصرنا لابد أن نكون على مطلوب الله منا في المعركة، بأن نكون جنودًا إيمانيين بحق. وقد عرفنا أن المؤمنين حين يدخلون في معركة مع غيرهم يستطيعون أن يحددوا مركزهم الإيماني من غاية المعركة. فإن انتهت المعركة بنصرهم وغلبتهم علموا أنهم من جنود الله، وإن هُزموا وغُلبوا فليراجعوا أنفسهم؛ لأن الله أطلقها قضية إيمانية في كتابه الذي حفظه فقال: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173].

فإن لم نغلب فلننظر في نفوسنا: ما الذي أخللنا به من واجب الجندية لله. وحين يعلمنا الحق أن نقول: {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين}، أي بعد أن أخذنا أسباب وجودنا من مادة الأرض المخلوقة لنا بالفكر المخلوق لله، نعمل فيها بالطاقة المخلوقة لله، وحينئذ نكون أهلاً للنصر من الله؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قد مد يده بأسباب النصر: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60].

حينئذ لا تخافون أبداً؛ لأن لله جنوداً لم تروها، ولا يتدخل الله بالجنود غير المرئية لنا إلا إذا استنفدنا نحن أسباب الله الممدودة لنا.

وحين يختم الحق سبحانه وتعالى سورة البقرة وهي الزهراء الأولى لتأتي بعدها الزهراء الثانية وهي سورة آل عمران نجد أن هذا هو الترتيب القرآني (الآن) وهو ليس على ترتيب النزول الذي حدث، فللقرآن ترتيبان: ترتيب نزولي حين نزلت الآيات لتعالج حدثاً وقع للأمة المسلمة في صراعها مع الكافرين بربهم، وفي تربيته لنفوسهم، فكانت كل آية تأتي لتعالج حادثة. والأحداث في الوجود إنما تأتي على أيدي البشر، فليس من المعقول أن تنزل آيات من القرآن. تعالج أحداثا أخرى لا صلة بينها وبين ما يجري من أحداث في المجتمع الإسلامي أو ما ينشأ في الكون من قضايا.

إذن فلابد أن توجد الأحداث أولا، ويأتي بعدها النص القرآني ليعالج هذه الأحداث، ولكن بعد أن اكتمل الدين كما قال الله: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} [المائدة: 3].

جاء الترتيب الذي يرتب القضايا ترتيباً كلياً، لأنه عالجها من قبل علاجا جزئيا. فحين نقول: إن هذه السورة نزلت بعد كذا، أو فيها آية كذا، نزلت بعد كذا، ونجد أن ذلك يختلف عن النسق النزولي نعلم أن لله سبحانه وتعالى في كتابه ترتيبين:

الترتيب الأول: حسب النزول.

والترتيب الثاني: الذي وُجد عليه القرآن الآن وتمت به كلمة الله في خدمة الهداية الإيمانية وهذا الأخير من عند الله أيضا.