في ذكرى خلع أول رئيس مصري.. قصة الإطاحة بـ "محمد نجيب"
لا يخلو أي تاريخ مصري قديم أو معاصر من صراعات السلطة، ولعل أبرزها ذلك الصراع الأعنف الذي واجهته مصر وهي تخطو أولى خطواتها في مسيرة الديمقراطية، تحل اليوم الذكرى الـ 62 على عزل الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، لأول رئيس للجمهورية المصرية اللواء محمد نجيب ووضعه تحت الإقامة الجبرية، وإعلان حالة الطوارئ في البلاد، تمهيدًا لتوليه رئاسة الجمهورية بدلًا منه.
تأييد شعبي
على الرغم من أن اللواء محمد نجيب كان سببًا رئيسيًا لنجاح ثورة يوليو نظرًا لما يحظى به من تأييد شعبي واسع، وهو ما أهله لتولي منصب أول رئيس جمهورية في تاريخ مصر، إلا أن صراعات السلطة التي لا تنتهي، حلت دون استكماله لدوره التاريخي، فبدأت الخلافات تدب بينه وبين مجلس قيادة الثورة لأسباب عدة، انتهت بعزله من الحكم، ووضعه قيد الإقامة الجبرية.
بداية الخلاف مع مجلس الثورة
تعددت الخلافات بين نجيب ومجلس قيادة الثورة، ولكن كان أبرزها "محكمة الثورة"، التي تشكلت لمحاكمة زعماء العهد الملكي، والنشرة التي صدرت باعتقال بعض الزعماء السياسيين وكان من بينهم مصطفى النحاس وهو مارفضه نجيب، لكنه فوجئ بعد توقيع الكشف بإضافة اسم النحاس، كما رفض مصادرة 322 فدانا من أملاك زينب الوكيل حرم النحاس باشا، والحكم أربعة من الصحفيين بالمؤبد وبمصادرة صحفهم بتهمة إفساد الحياة السياسية.
قرارات عدة أجمع عليها مجلس الثورة إلا أن اللواء محمد نجيب كان يقف دائمًا معارَا لها، كرفضه التوقيع على القرار الجمهوري بسحب الجنسية المصرية من ستة من المصريين من الأخوان المسلمين، ونقل الضباط دون مشورته، وعقد عدد من الاجتماعات بدونه، وزاد من حدة الخلاف رفض زكريا محي الدين أن يؤدي اليمين الدستورية أمامه بعد تعيينه وزيرا للداخلية، وكذلك رفض جمال سالم.
استقالة فبراير
كل هذه الممارسات السابقة لم ترضي الرئيس محمد نجيب، ودفعته إلى تقديم استقالته في 22 فبراير 1954، وفي 25 فبراير أصدر مجلس القيادة بيان أقال فيه نجيب، وأدعى أنه طلب سلطات أكبر من سلطات أعضاء المجلس وأن يكون له حق الاعتراض على قراراتهم حتى لو اتخذت بالإجماع، وغيرها من الاتهامات التي قوبلت برفض شعبي كبير، فخرجت الجماهير محتجة تطالب بعودة نجيب، واندلعت المظاهرات في كافة أنحاء القاهرة والأقاليم، لمدة ثلاثة أيام تهتف (محمد نجيب أو الثورة)، وفي السودان اندلعت مظاهرات جارفة تهتف (لا وحدة بلا نجيب)، وانقسم الجيش بين مؤيد لعودة محمد نجيب، وبين المناصرين لمجلس قيادة الثورة، وكان سلاح الفرسان أكثر أسلحة الجيش تعاطفا معه.
عودة نجيب بناءًا على طلب الجماهير
وبعد أن أشرفت البلاد على حرب أهلية، وتداركا للموقف أصدر مجلس القيادة بيانا الساعة السادسة من مساء 27 فبراير 1954 جاء فيه "حفاظا علي وحدة الأمة يعلن مجلس قيادة الثورة عودة محمد نجيب رئيسا للجمهورية وقد وافق سيادته علي ذلك"، وعاد محمد نجيب مجدداً إلى منصبه كرئيس للجمهورية.
أزمة مارس 1954
بدأ نجيب فور عودته إلي الحكم مشاوراته مع مجلس القيادة للتعجيل بعودة الحياة البرلمانية، وفي ليلة 5 مارس صدرت قرارات ركزت على ضرورة عقد جمعية لمناقشة الدستور الجديد وإقراره، وإلغاء الأحكام العرفية والرقابة على الصحف والإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين، وفي 25 مارس 1954 اجتمع مجلس قيادة الثورة كاملا وانتهى الاجتماع إلى إصدار عدة قرارات منها: (السماح بقيام الأحزاب، مجلس قيادة الثورة لا يؤلف حزبا، لا حرمان من الحقوق السياسية حتى لا يكون هناك تأثير علي الانتخابات، تنتخب الجمعية التأسيسية انتخابا حرا مباشرا بدون تعيين أي فرد وتكون لها سلطة البرلمان كاملة والانتخابات حرة، حل مجلس الثورة في 24 يوليو المقبل باعتبار الثورة قد انتهت وتسلم البلاد لممثلي الأمة، تنتخب الجمعية التأسيسية رئيس الجمهورية بمجرد انعقادها).
في يوم 28 مارس 1954 خرجت أغرب مظاهرات في التاريخ تهتف بسقوط الديمقراطية والأحزاب والرجعية، ودارت المظاهرات حول البرلمان والقصر الجمهوري ومجلس الدولة وكررت هتافاتها ومنها "لا أحزاب ولا برلمان"، كما نظم عمال النقل إضرابًا لشل الحياة وحركة المواصلات، وشاركهم فيها عدد كبير من النقابات العمالية وخرج المتظاهرون يهتفون "تسقط الديمقراطية تسقط الحرية"، وربح أعضاء مجلس قيادة الثورة المعركة ضد محمد نجيب وصدرت قرارات جديدة تلغي قرارات 25 مارس.
إعفائه من الرئاسة
انهزم محمد نجيب في معركة مارس 1954، وأصر نجيب بعدها على الاستقالة لكن عبد الناصر عارض بشدة استقالته خشية أن تندلع مظاهرات مثلما حدث في فبراير، ووافق نجيب على الاستمرار إنقاذا للبلاد من حرب أهلية ومحاولة إتمام الوحدة مع السودان، وفي يوم 14 نوفمبر 1954، صدر أمر بإعفاء نجيب من منصبه، وتقييد إقامته في فيلا زينب الوكيل التي حبيس أسوارها طوال 30 عاما.
تحديد إقامته
كما صادر مجلس الثورة أثاث فيلا زينب الوكيل، وأوراق اللواء نجيب وتحفه ونياشينه ونقوده التي كانت في بيته، وأقيمت حول الفيلا حراسة مشددة، وفرض على جميع من بالمنزل عدم الخروج في الفترة من الغروب إلى الشروق، ومنعه تماما من الخروج أو من مقابلة أيا كان حتى عائلته، وكان يسلي وقته بقراءة الكتب المختلفة، وتربية القطط والكلاب التي اعتبرها أكثر وفاءا من البشر، ظل نجيب حبيس فيلا المرج حتى أمر الرئيس السادات بإطلاق سراحه عام 1971، ورغم هذا ظل السادات يتجاهله تماما كما تجاهله باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة كما ورد على لسان نجيب في مذكراته.
وفاته
بتاريخ 21 أبريل 1983 أمر الرئيس حسني مبارك تخصيص فيلا في حي القبة بمنطقة قصر القبة بالقاهرة لإقامة محمد نجيب، بعدما صار مهددًا بالطرد من قصر زينب الوكيل نتيجة لحكم المحكمة لمصلحة ورثتها الذين كانوا يطالبون بالقصر، وهو القصر الذي عاش فيه لمدة 29 سنة منها 17 سنة وهو معتقل، ظل نجيب مغمورًا لايعرفه أحد، ولا يتحدث إلى أحد إلى أن تُوفي في 28 أغسطس 1984 بعد دخوله في غيبوبة في مستشفى المعادي العسكري بالقاهرة، أثر مضاعفات تليف الكبد، بعد أن كتب مذكراته شملها كتابه كنت رئيسا لمصر.
رغم وصيته أن يدفن في السودان بجانب أبيه، إلا أن اللواء محمد نجيب دفن في مقابر شهداء القوات المسلحة في جنازة عسكرية مهيبة، انطلقت من مسجد رابعة العدوية بمدينة نصر وحمل جثمانه على عربة مدفع، وقد تقدم الجنازة الرئيس المصري حسني مبارك شخصيا وأعضاء مجلس قيادة الثورة الباقين على قيد الحياة.