د. نصار عبدالله يكتب: فاروق شوشة (2)
منذ اللقاء الأول بفاروق شوشة شعرت بأننى إزاء شخصية تتسم بالبساطة والتواضع الحقيقى الذى لا تصنع فيه ولا تكلف، وأهم من هذا: الصدق مع النفس والرغبة العميقة فى معرفة الحقيقة، وهو الانطباع الذى تولد فى نفسى عندما قال لى بمناسبة اعتزام جمعية الأدباء مناقشة ديوانه: "لؤلؤة فى القلب" قبيل منتصف السبعينيات من القرن الماضى كما ذكرت فى الأسبوع الفائت.. قال لى: إننى أريد ناقدا يشتمنى وأتعلم منه، ولا أريد ناقدا يمتدحنى ويرسم صورة لديوانى قد ينخدع بها المتلقى، وربما أنخدع بها أنا أيضا، فلا أتعلم منه شيئا ولا أسعى إلى تجاوز نفسى، وهو ما ينبغى على كل مبدع أن يسعى إليه.. والحق أن هذه العبارة قد قربته كثيرا إلى نفسى، خاصة أننى عانيت كثيرا أثناء فترة إعدادى وتقديمى لندوات الجمعية الأدبية المصرية (12شارع عرابى التوفيقية)، وكذلك ندوات جمعية الأدباء (104شارع قصر العينى)، عانيت كثيرا، بل ما زلت أعانى إلى الآن من أولئك الذين لا يعنيهم إلا أن يستمعوا إلى الثناء الدائم! ويلهثون دائما وراء الذين جبلوا على كيل المديح (الزائف فى معظم الأحيان) لكل ذى وزن مهما كان ضئيلا فى أى مجال من المجالات!وما أكثر هؤلاء فى حياتنا، وما أقل أولئك الذين لا ينشدون إلا معرفة الرأى الموضوعى الصادق حتى لو كان موجعا.. ولقد كان فاروق شوشة واحدا من هذه القلة.. حضر فاروق شوشة إلى مقر الجمعية قبل الموعد المقرر لبدء الندوة بنصف الساعة بالضبط كما طلبت منه فى اتصالى الهاتفى، وبذلك أضاف إلى انطباعى عنه بعدا جديدا هو أنه إنسان ملتزم يحترم مواعيده بشكل دقيق..وعندما حضر أبدى اندهاشه من فخامة المكان (كان شديد الفخامة إذ ذاك بالفعل)..الذى تحف به حديقة بديعة ويشغل موقعا متميزا على بعد خطوات من ميدان التحرير فى مواجهة الجمعية الجغرافية التى أنشأها الأمير يوسف كمال (فيما بعد مقر الأمانة العامة لمجلس الشورى!)..سألنى إن كان هذا المبنى مملوكا لوزارة الثقافة، فأجبته بالنفى، وأضفت إنه كان فيللا يملكها عبدالرحمن فهمى القطب الوفدى وأحد زعماء ثورة 1919، ثم قام ورثته بعد ذلك بتأجير الفيللا إلى جمعية الأدباء التى أنشئت فى عام 1958 مقابل إيجار شهرى قدره خمسة وعشرون جنيها مازالت الجمعية تدفعها رغم أن الورثة قاموا مؤخرا (الكلام ما زال فى منتصف السبعينيات) قاموا برفع دعوى يطالبون فيها بتسليمهم الفيللا بحجة أن الجمعية قد أخلت بشروط التعاقد (فيما بعد خسر الورثة دعواهم، غير أن ورثة الورثة عادوا إلى المنازعة من جديد وخسروا الدعوى أيضا، وفى حدود ما أعلم فإن العقد ذا الخمسة والعشرين جنيها ما زال ممتدا).. كان طلبى من الأستاذ فاروق شوشة بأن يحضر قبل الموعد المقرر لبدء الندوة هو نفس الطلب الذى أطلبه عادة من أى ضيف تستضيفه الدار، خاصة إذا كان ممن يستضافون لأول مرة، وكنت أرى هذا ضروريا لكى أتعرف عليه وعلى ملامح شخصيته قبل أن أقوم بتقديمه.. والحقيقة أن لقائى الأول بفاروق شوشة قد ترك فى نفسى يومها أثرا طيبا كان فاتحة للصداقة الوطيدة التى انعقدت فيما بعد بينى وبينه.. وكان أهم ما أثار إعجابى به بالإضافة إلى ما ذكرته منذ قليل هو ثقافته الواسعة وحضوره الذهنى المتوقد، ومتابعته للمنتج الفكرى والثقافى على امتداد الوطن العربى، فقد أبدى ملاحظات عن كتب لم أكن أتصور أنه قد قرأها، وكتاب وشعراء لم أكن أتصور أنه قد سمع بهم، وللحديث بقية.