د. نصار عبدالله يكتب: ذكريات أكتوبرية
قدم نفسك إلى وحدتك،.. أعدت قراءة البرقية التى تلقيتها عدة مرات وأنا أشعر بأن أمرا جللا يوشك أن يقع، إن لم يكن قد وقع فعلا، فأنا لم يكن قد مضى على تسريحى من الخدمة كضابط احتياط سوى ثلاثة شهور وبضعة أيام.. تحديدا فى أول يوليو 1973 تم تسريحى أنا وجميع أبناء دفعتى، بعد خمسة أعوام ونصف العام منذ تجنيدنا فى أول يناير 1968، حيث كان من المقرر أصلا أن يتم تسريحنا فى يناير 1969 بعد أن تم تخفيض فترة تجنيد حملة المؤهلات العليا إلى عام واحد، وتجنيد المؤهلات المتوسطة إلى عام ونصف العام، لكن الأمور تغيرت بعد نكسة 1967 ولم يسرح أحد من المجندين بعد انتهاء فترة تجنيده، لا من المؤهلات العليا ولا المتوسطة، وبدلا من التسريح تنقلت بين وحدات عسكرية كثيرة على طول البلاد وعرضها، وشاركت ما يقرب من عامين فى معارك حرب الاستنزاف التى جرت على امتداد قناة السويس عامى 1969و1970، ونشرت قصيدة أغنية إلى مقابر المثلث التى رثيت فيها رفقاء السلاح الذين استشهدوا ودفنوا فى مقابر المثلث بالسويس، أخيرا تنفست الصعداء فى أول يوليو وخيل إلى أن بلادنا قد اكتفت بما قدمناه لها، وأنه قد جاء دور الدفعات التالية لكى تحمل على أكتافها ما أزاحته مصر عن أكتافنا، لكن ظنى فيما يبدو لم يكن صحيحا تماما، وهأنذا أستدعى مرة أخرى يوم 6أكتوبر!!..قيل لنا لدى تسريحنا إنه سوف تجرى بروفات لقياس كفاءة الاستدعاء بطريق إرسال برقية، لكن الأمر لا يبدو إطلاقا أنه مجرد بروفة...فقد استمعت فى الإذاعة منذ قليل إلى بيان يقول : جاءنا من القيادة العامة للقوات المسلحة مايلى : قام العدو الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر اليوم بمهاجمة قواتنا بمنطقتى الزعفرانة والسخنة بخليج السويس بواسطة تشكيلات من قواته الجوية عندما كانت بعض من زوارقه البحرية تقترب من الساحل الغربى للخليج، وتقوم قواتنا حالياً بالتصدى للقوات المغيرة.. طبقا للبيان الذى أذيع فإن هناك اشتباكات على جبهة القتال التى أعرفها شبرا شبرا، ويتزامن هذا مع استدعائى إلى وحدتى مباشرة «وهى آخر وحدة خدمت فيها قبل تسريحى».. فى الأمر إذن شىء وأى شىء!.. قمت بالاتصال تليفونيا ببعض الأصدقاء المقربين من أبناء دفعتى فعرفت منهم أنهم قد تلقوا برقيات مماثلة وأنهم ينتابهم نفس الشعور الذى انتابنى وأنهم يستعدون للتوجه إلى وحداتهم، وحينئذ سارعت على الفور بارتداء الملابس العسكرية التى كنت ما أزال محتفظا بها جاهزة للاستعمال فى أية لحظة، وتوجهت إلى وحدتى، وهناك عرفت ما حدث، وشعرت بالفخر وأنا أستمع إلى تفاصيل الإنجاز المذهل الذى قامت به قواتنا المسلحة المصرية وكيف أنها قد اقتحمت مانعا مائيا هو قناة السويس وساترا ترابيا هو خط بارليف المؤمن بالنقط الحصينة دون أن تلحق بها أى خسائر تذكر. صحيح أنى لم يكن لى شرف المشاركة المباشرة فى هذا الإنجاز، إذ أن آخر وحدة خدمت فيها (وهى التى استدعيت إليها) كانت بعيدة عن جبهة القناة، لكننى على الأقل كان لى أثناء حرب الاستنزاف شرف الانتماء إلى الفرقة 18وكان لى شرف المشاركة فى تدريباتها ومشاريعها التى كانت تستعد من خلالها للعبور، وقد كانت تلك الفرقة واحدة من الفرق التى قامت بعد ذلك بالعبور بالفعل وتحقيق النصر المؤزر فى عام 1973، وما زلت إلى يومنا هذا أعتز بالصحبة التى جمعت بينى يوما وبين عدد من أبنائها الأبطال ومن شهدائها الأبرار.