عادل حمودة يكتب: انتحار الطبقة الوسطى
وقائع
■ مدرس يقص شعر الكلاب بـ 200 جنيه فى الساعة
■ طبيب يتقاضى 100 جنيه فى ساعة الكنس والمسح
■ موسيقى يعيش على البقشيش من توصيل الكباب والكفتة
نتائج
■ لو تعرضت الطبقة الوسطى للأذى.. فإنها تنقلب على كل ما حولها.. الصحفى ينافق.. ضابط الشرطة يعذب.. القاضى يرتشى.. المعلم يبيع الامتحان.. الطبيب يكسب من الإجهاض.. رجل الدين يتاجر فيه.. إلا قليلا
تحذير
■ النمو الطبقى يبقى مبرره الوحيد الثروة.. ولو مصدرها رشوة أو تهريب أو فساد.. وراجعوا سيرة كثير من المليارديرات والمليونيرات الذين يحكمون ويتحكمون
ضمير المجتمع من قيادة أمة راقية إلى مسح البلاط وتوصيل الكباب وتهذيب شعر الكلاب
الكلمة غير قابلة للقسمة.. والحقيقة أيضا.
لم أصدق أن الرجل الوقور الذى جاء على فيسبا من قليوب إلى الزمالك ليهذب كانيش كلاب سيدات نادى الجزيرة مدرس لغة عربية.
ترك شعر أبوالعلاء المعرى وأحمد شوقى وصلاح عبدالصبور وغيرهم من مبدعى القصائد الجميلة ليجمل شعر التشيواوا والبابيلون والبوميزانيان وغيرها من أنواع الكلاب المدللة.
لم يجد فى راتب وزارة التربية والتعليم ما يطعم أولاده.. وما يسدد فواتير المياه والكهرباء.. وما يشترى به الدواء لوالده المسن الذى ورث عنه مهنة حلاقة الكلاب.
نقلت عنه سيدة مجتمع تتعامل معه: الغلاء فاحش.. والجوع كافر.. والضمير لا يقبل الحرام.. والأثرياء لا يبخلون بشىء على كلابهم.. وما أتقاضاه منهم فى يوم واحد يساوى نصف شهر من راتب الحكومة.. وما دام العمل شريفا فلا خجل ولا عار.
راتبه الرسمى بالبدلات والمكافآت والحوافز والأوفرتايم ولجان الامتحانات ألفا جنيه.. لكنه.. يتقاضى فى قص شعر الكلب الواحد مائتى جنيه.. ليعود بعد خمس ساعات عمل بألف جنيه يوميا.. نصف ما يتقاضاه من الحكومة شهريا.
والمؤكد أنه يتساءل بينه وبين نفسه: لماذا تعب وتعلم حتى حصل على شهادة جامعية إذا كان المجتمع سيجبره فى النهاية على ألا يترك جلباب أبيه؟
ربما.. تذكرنا تلك الحالة الإنسانية بمشهد نجيب الريحانى وهو يتحدث باحترام للخادم الأنيق المكلف برعاية كلب الباشا متصورا أنه الباشا نفسه.. ضحكنا من المشهد الساخر دون أن نتصور أنه سيصبح ذات يوم واقعا أليما.
والحالة تتكرر كثيرا.
طبيب يترك عمله فى وزارة الصحة ليخدم فى البيوت.. ساعة الكنس والمسح بمائة جنيه بينما لا تزيد ساعة الطب على ثلاثين قرشا.
مدرس رياضيات يحصل على إجازة دون راتب متنازلا عن موهبته فى الجبر والهندسة الفراغية ليعمل فى توصيل الكباب والكفتة إلى المنازل هوم ديليفرى.. يكفى البقشيش.
عاطل تخرج فى كلية الفنون الجميلة لم يجد عملا مناسبا فى متحف أو مدرسة فتنقل بين وردية ليلية فى محطة بنزين وبيع الفوانيس واللعب الصينية والمناديل الورقية فى إشارات المرور.
تحرجنا تلك النماذج المكافحة الشريفة التى لا تعد أو تحصى.. وتجعلنا فى «نص هدومنا» حسب التعبير الشائع.. فقد أدى كل منها ما عليه.. ذاكر وسهر وتعب ونجح وأرهق أسرته ماديا وصحيا.. لكنه.. لم يجد ثمرة جهده.. وظل فى مكانه.. محلك سر.
إنها أزمة الطبقة الوسطى التى لم يغير التعليم من واقعها الاجتماعى.. فلم تجد فرصة للصعود إلى أعلى.. وإنما أجبرت على الهبوط إلى أسفل.. لتشارك الطبقات الفقيرة فى رزقها وأشغالها المتدنية فى التحايل على المعايش.. دون أن تنسى أنها متعلمة.. واعية.. فاهمة.. مستوعبة.. ما كون فى أعماقها شحنات من الغضب المكتوم.. ربما ضاعفت من حالة الكراهية لكل ما حولها.. أو ربما غابت عن الوعى بالمخدرات.. أو ربما شجعت على القيام بعملية انتحارية تمنحها قصرا فى الجنة بما فيه من أنهار خمر وحور وغلمان، حسب ما يوحى أمراء الإرهاب.
ومن الصعب تعريف الطبقة الوسطى.. احتار علماء الاجتماع فيها.. فاتفقوا على أنها ثلاث شرائح.. يحدد كل منها مستوى الدخل.. فالمهندس المبتدئ يبدأ بالشريحة الدنيا ثم يصعد للأعلى كلما كبر وكسب.. ويمكن للطبيب الشهير أن يهبط من الشريحة العليا إلى ما تحتها لو أصابه مكروه.. وهكذا.. تظل هذه الطبقة فى حالة حراك مستمر.. طامحة فى العصود.. خائفة من الهبوط.
ويسهل تحديد موقعها بين طبقة عليا ثرية متحكمة ومستغنية وطبقة سفلى فقيرة وقانعة ومنصرفة.. وزيادة حجمها دليل على سلامة المجتمع ورفاهية الدولة.. والعكس صحيح.. فى اليابان وسويسرا وألمانيا لا يقل حجمها عن 85%.. مثلا.
والسبب.. أن الطبقة الوسطى صمام أمن.. ومصدر ابتكار.. ودليل رقى.. ومنتج قيم.. وطامح للأفضل.
إن أهم خصائصها.. طموح أكبر من واقعها.. وسعى دءوب بالعلم والجهد والموهبة والابتكار إلى تجاوز واقعها لتحقيق طموحها.. بشرط أن نمنحها الفرصة والثقة والحرية ولا نخنقها ولا نقصقص ريشها.. ساعتها سيعبر الصحفى بصدق عن أمته.. وسيجيد ضابط الشرطة احترام مجتمعه.. وسيبذل الطبيب كل جهده لعلاج مرضاه.. وسيخرج من تحت يد المعلم جيل أفضل منه.. وسيحقق القاضى العدل دون ضغوط.. وسيرعى نائب الشعب ضميره وهو يشرع القوانين.. باختصار لن يتوقف التغيير إلى الأفضل.
لكن.. لو تعرضت الطبقة الوسطى للأذى.. وأحست بالقلق على حالها.. فإنها تنقلب على كل ما حولها.. الصحفى ينافق.. ضابط الشرطة يعذب.. القاضى يرتشى.. المعلم يبيع الامتحان.. الطبيب يكسب من الإجهاض.. رجل الدين يتاجر فيه.. إلا قليلا.
إن هناك من شبه حركة هذه الطبقة بتروس نقل الحركة فى السيارة.. لو منحتها ما تستحق من تقدير انتقلت من سرعة إلى سرعة أعلى وأخذت المجتمع الذى تحمله على ظهرها إلى مسافة من النمو أبعد.. لكن.. لو هددت مكانتها فإنها تأخذ تروس الحركة فى السيارة إلى الوراء.. مارشدير.. وتخرج أسوأ ما فيها.. الفساد.. التراخى.. اللامبالاة.. الغش.. النميمة.. الكراهية.. وغيرها.
ما إن تشعر الطبقة الوسطى بالخطر على مكانتها حتى تعطل جهاز القيم الذى تملك وحدها مفاتيحه وأسراره والغدة التى تفرزها.. فهى وحدها التى فرضت قيمة العمل.. واحترام الوقت.. والمنافسة الشريفة.. والجودة المتقنة.. والثقافة الرفيعة.. واعتبرتها مكملا ضروريا للشهادة والخبرة والموهبة.. فلو تساوت خبرة طبيبين مهنيا فإن الفوز بوظيفة فى مستشفى سيكون من نصيب الأكثر احتراما للوقت.. ولو تساوت خبرة مهندسين فإن الفوز بترقية فى مصنع سيكون للأكثر تعاونا مع زملائه.. ولو تساوت مؤهلات طيارين فإن التفضيل سيحظى به الأكثر أناقة والأقل ثرثرة.
ولا نجد حرصا على تلك القيم بجانب السمات الأخلاقية فى الطبقات الأخرى.. فالخيانة الزوجية تنتشر بين رجال ونساء الطبقة العليا.. الثروة التى يمتلكونها غالبا ما تغطى ما يكشف من عوراتهم وفضائحهم وتقنعهم بالتسامح فى الخطايا قبل الأخطاء.. وزنى المحارم آفة الطبقة العشوائية الفقيرة التى لا تعتبر ما تفعل حراما أو عيبا.
لكن.. لو أجبرت الطبقة الوسطى على الهبوط إلى أسفل لتنضم إلى الطبقة الفقيرة فإنها سرعان ما ترتكب الموبقات وإن غلفتها بادعاءات أخلاقية ودينية.. فقد وجدنا موظفا يقبل رشوة حجا وعمرة وإفطارا فى رمضان.. وكثيرات من المتهمات فى قضايا الآداب جامعيات يرتدين الحجاب.. وسجلت المحاكم جنايات اتهم فيها أطباء بتصوير مرضاهم من النساء.. وسجلت مجالس التأديب فى الجامعات حالات أساتذة تلقوا رشوة جنسية من طالبات مقابل تقدير أعلى.. وفى واقعة أخيرة ضبط قاض يتلقى رشوة تزيد على 600 ألف جنيه ليبرئ مهرب ترامادول من تهمته.. وما خفى كان أعظم.
والحقيقة أن كل هذه الوقائع التى تهلل لها الصحف تثير القلق أكثر مما تثير الصخب.. فهى علامة على أن الطبقة الوسطى تعانى من أزمة حادة.. تجاوزتها إلى المجتمع كله.. فما يصيبها يصيبه.. وما تتعرض له من أذى ينعكس عليه.. ويقلل من نموه.. ويزيد من تراجعه.
لقد توسعت مساحات الطبقة الفقيرة بعد أن هبطت إليها أعداد هائلة من الطبقة الوسطى التى تقلصت إلى حد الأزمة.. لم يعد حجمها يسمح بظهور نجوم مثل رشدى أباظة ومحمود ياسين ونور الشريف.. ولا بكتاب مثل أحمد بهاء الدين ومحمد حسنين هيكل ومصطفى أمين وكامل زهيرى وصلاح حافظ.. ولا بروائيين مثل نجيب محفوظ ويوسف السباعى وإحسان عبدالقدوس.. ولا بمطربين مثل أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ.. ولا بسياسيين مثل فؤاد سراج الدين وممتاز نصار وعلوى حافظ.. ولا برؤساء حكومة مثل مصطفى النحاس وعزيز صدقى ومصطفى خليل.. جف رحمها عن الإنجاب.. وفشلت فى الإخصاب.
بل إنها تنازلت عن لغتها الراقية واستخدمت لغة سوقية كانت ترفضها.. لغة توصف بأنها «شمال» حسب التعبير الشائع.. وسجلت أغنية «آه لو لعبت يا زهر» لشخص مجهول أعلى استماع.
أجبرت الطبقة الوسطى على سلوكيات وتصرفات وقيم وثقافة الطبقة العشوائية.. ونحن أجبرناها على ذلك.. فلا أحد يهتم بها.. ولا أحد يستوعب أهميتها.. ولا أحد يتصور أن ما نعانى منه هو بسبب إهمالنا لها.
ولو كنا نتذكر جمال عبدالناصر بالخير بمناسبة ثورة يوليو فإننا ننسى أنه اعتمد فى برنامجه التنموى على توسيع مساحة الطبقة الوسطى وجعل منها العمود الفقرى للمجتمع.. وفى زمانه صعد الفقراء إلى أعلى.. وفى صعودهم تركوا قيمهم المعيبة وآمنوا بقيم الطبقة الوسطى وكانت لا تزال راقية.
صعد الفقراء إلى أعلى بالتعليم والتوظيف وتكافؤ الفرص.. وكانت تلك الوسائل الوحيدة الشريفة للحراك الطبقى.. فيكفى تفوق ابن البواب فى كلية الطب لينتقل هو وأسرته من بئر السلم إلى الرووف.. وبالنجاح المميز تزوج ابن الخفير من ابنة الوزير.. وتعاطف المصريون مع «على» الضابط ابن الجناينى وهو يسعى للزواج من «إنجى» ابنة الباشا.. لكن.. ذلك تجمد تماما.. فلم يعد التعليم يكفى للصعود الطبقى.. وظل ابن الجناينى جناينى ولو حصل على شهادة دكتوراه.. إلا قليلا.
أما النمو الطبقى فبقى مبرره الوحيد الثروة.. ولو مصدرها رشوة أو تهريب أو فساد.. وراجعوا سيرة كثير من المليارديرات والمليونيرات الذين يحكمون ويتحكمون.
ولا شك أن أى مهندس أو طبيب أو صحفى شاب لم يمنحه التعليم ما يستحق من مكانة اجتماعية يحسد سكان العشوائيات فهم ينالون من الرعاية ما لا يناله حملة الشهادات الجامعية.. والمؤكد أن من حق سكان العشوائيات حياة كريمة.. لكن.. من المؤكد أيضا أن الحياة الكريمة من حق الطبقة الوسطى أيضا.. ليس فقط من أجلها وإنما من أجلنا جميعا.. فلو استراحت دفعت بنا إلى الأمام.. وإذا سخطت هوت بنا إلى القاع.
إنها حطب لو جف فإنه سيكون قابلا للاشتعال من رأس عود كبريت مشتعل.. وراجعوا التاريخ القريب قبل البعيد.
طارق نور
أطلق طارق نور قدرات وإمكانيات ومواهب صناعة الإعلام فى مصر فنقلها من حال متواضع إلى حال متفجر.. وخلق مدرسة جديدة من الابتكار تخرج فيها نجوم وأباطرة وإن لم يفقد مكانته. وقد ظلم عندما نسب إليه أنه حصل على حملات حكومية بالأمر المباشر فما حصل عليه كان بتمويل من شركات لا تخضع لقوانين الأمر المباشر.. كما أن حملة المنتج المصرى مولها البنك الأهلى.لكن.. الأهم من الدفاع عنه أنه مثل شخصيات مؤثرة فى مجالات متنوعة غيرت مما تفعل وكانت لحظة فارقة يؤرخ عندها مهن كثيرة.