د. نصار عبدالله يكتب: خالد محيى الدين يتكلم (2)
مازلنا فى شهر يوليو الذى هو كما ذكرنا فى الأسبوع الماضى المناسبة المثلى للحديث عن واحد من أهم الكتب التى صدرت عن الثورة المصرية، والذى تحمل ترجمته الإنجليزية عنوانا مختلفا عن نسخته العربية، إذ إن عنوان الترجمة الإنجليزية هو: «ذكريات ثورة»، فى حين أن النسخة العربية عنوانها: «الآن أتكلم»، والعنوان الأخير يفسره صمت خالد محيى الدين (أحد صانعيها) لمدة أربعين عاما كاملة منذ عام 1952تاريخ قيام الحركة المباركة (كما كانت تسمى فى البداية) إلى عام 1992 تاريخ صدور الطبعة الأولى من كتاب «الآن أتكلم»، الذى كشف فيه المؤلف لأول مرة الكثير من خبايا ذلك الحدث الذى شهدته مصرفى23 يوليو 1952 والذى غير وجه الحياة فيها وكانت له انعكاساته الكبيرة التى تجاوزت حدودها إلى مناطق شتى من العالم، والواقع أن خالد محيى الدين لا يروى قصة الثورة وحدها، ولكنه يروى فى نفس الوقت سيرته الذاتية منذ سنوات حياته الأولى التى تعيها ذاكرته مرورا بالتحاقه بالكلية الحربية وتخرجه فيها، وانضمامه إلى تنظيم الأحرار الذى قام بالحركة المباركة (أسميت بالثورة فيما بعد كما ذكرنا منذ قليل) وانتهاء إلى قيام أزمة مارس 1954 التى كانت تمثل ذروة الصدام داخل صفوف القوات المسلحة بين المطالبين باستعادة الديمقراطية وعلى رأسهم ضباط سلاح الفرسان وفى مقدمتهم خالد محيى الدين من ناحية وبين المطالبين بالاستمرار فى الثورة (أو بالأحرى استمرار الضباط الأحرار فى الحكم)، وعلى رأسهم محمد نجيب الذى لم يكن يشغله سوى أن يستمر رئيسا للجمهورية بأكبر قدر ممكن من السلطات والصلاحيات، رغم إدراكه أن السلطة الحقيقية فى يد مجلس قيادة الثورة، وتحديدا فى يد جمال عبدالناصر، ورغم أنه يعلم علم اليقين أنه لم يشارك فى تنظيم الضباط الأحرار أصلا!، ولم يشارك فى أى عمل من الأعمال التحضيرية لها، بل إنه لم يكن يعلم بها إلا عندما قدمت إليه ثمرة ناضجة إذ عرض عليه عشية الثورة أن يكون هو الواجهة التى تطل من خلالها الحركة على الجماهير باعتباره ضابطا كبيرا فى رتبة اللواء، خلافا لبقية الأعضاء الذين كانوا ضباطا صغارا أعلى رتبة فيهم هى رتبة البكباشى (المقدم) التى كان يحملها جمال عبدالناصر.. وقد انتهت تلك الأزمة بانهزام التيار الداعى إلى استعادة الديمقراطية، وانتصار التيار المطالب باستمرار الضباط فى الحكم، وهو ما أدى إلى ترك خالد محيى الدين لموقعه كعضو فى مجلس قيادة الثورة ومغادرته للبلاد فيما يشبه النفى الذى اتخذ شكلا كريما وهو إيفاده على رأس بعثة لمجلس الإنتاج القومى لزيارة مصانع الحديد والصلب فى فرنسا وإيطاليا، على أن يصدر بعد ذلك قرار بتعيينه سفيرا لمصر فى الفاتيكان وقد كان هذا الشكل الكريم للنفى بقرار من عبدالناصر تقديرا لدور خالد محيى الدين وتاريخه فى الإعداد لثورة يوليو، رغم أن بعض الضباط المنتمين للاتجاه المضاد المطالب باستمرار الثورة كانوا يطالبون باعتقاله وتقديمه للمحاكمة باعتبار أنه هو الذى حرض ضباط سلاح الفرسان على المطالبة بالديمقراطية، هكذا سافر خالد محيى الدين إلى فرنسا، ومنها بالقطار إلى إيطاليا، وأثناء الرحلة قرأ له المترجم المرافق ترجمة خبر منشور فى إحدى الصحف يقول إنه قد تم إحباط محاولة للانقلاب قام بها بعض ضباط سلاح الفرسان، وقد تم إلقاء القبض على عدد من الضباط المشاركين فى المحاولة الانقلابية. حينئذ أدرك خالد محيى الدين أنه لن يعين سفيرا... وللحديث بقية