عادل حمودة يكتب: اعترافات محافظ بنك مركزى العالم
■ يهوى الفلك ويعزف الموسيقى ويشاهد أفلام الكاوبوى ويقرأ الروايات البوليسية ويدرس العلوم الإنسانية ليعرف كيف يواجه الأزمات الاقتصادية
■ يقضى العشرة أيام الأولى فى منصبه يتعلم من مساعديه القدامى ولا يقدر على إصدار قرار دون الرجوع إليهم وليس له سوى صوت واحد فى مجلس يتكون من 15 عضوا
■ مهمته الرئيسية وضع سياسات لاستقرار الأسعار وتحجيم التضخم وخلق فرص جديدة للعمل وليست دعم العملة الوطنية
الكلمة قوة كامنة.. يمكنها لو صممت أن تنقل الجبال من مكانها.. والحكومات من مكانها.. وتكتب روشتة للحياة.. وترسم طريقا أفضل لتتمتع بها.
ولو اقترنت الكلمة بالخبرة فإنها تصبح شريكة فى القرار.. ولو لم نستجب لنصيحتها فإن الثمن يكون فادحا.. جموداً.. كساداً.. تضخماً.. غضباً.. تمرداً.. وغيرها من المتاعب الاقتصادية التى تهدد النظم السياسية.. فالرغيف نصفه خبز ونصفه الآخر حرية.
هذه العبارات صياغة سهلة لما سجله «آلان هربرت جرينسبان» محافظ أقوى بنك مركزى فى العالم المعروف ببنك «الاحتياط الفيدرالى» الأمريكى فى مذكراته التى نشرت ــ قبل ثمانى سنوات ــ تحت عنوان «عصر الإضراب ــ مغامرات فى عالم جديد» وترجمت إلى 30 لغة أجنبية وضمت لقائمة المراجع الاقتصادية المتينة التى ينصح بها طلاب الدراسات العليا فى جامعة «هارفارد» بجانب وضعه على مكتب كل محافظ بنك مركزى يريد أن ينجح فى عمله الصعب.
أكثر من سبب جعلنى أعود لتلك المذكرات التى قرأتها وقت صدورها (وأنا فى طريقى لحضور مؤتمر ديفوس الذى عقد فى شرم الشيخ عام 2008).. إنها تحوى وصفات سحرية يجب الرجوع إليها فى الأزمات الاقتصادية الحالية والمتوقعة.. حسب تصريحات محافظ بنك إنجلترا «مارك كارينى» عقب خروج بلاده من الاتحاد الأوروبى.. بجانب أنها ربما تحسم الوظائف الرئيسية للبنك المركزى الملتبسة علينا رغم أننا سبق أن تعرفنا عليها فى محاضرات الدكتور زكى شافعى ونحن ندرس فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.
يصف جرينسبان مذكراته بأنها «قصة بوليسية» صاغت حبكتها الدرامية هجمات سبتمبر التى نقلت بلاده من جنة الشعور بالأمان إلى جحيم الخوف.. ووضعت العالم كله أمام متاعب سياسية أثرت على معيشته.. واحتاجت لتجاوزها إلى مواهب مبتكرة.. مرنة.. منفتحة.. سريعة التغير.. تصحح نفسها بنفسها.. وقادرة على مواجهة الصدمات.
والأهم أن «تكون القرارات التى نتخذها حصيلة خبرات جماعية تصيب الهدف دون آثار جانبية مؤلمة» فالعصر الذى نعيش فيه شديد التعقيد.. يستحيل على رجل واحد ولو كان ملهما أن يواجه متاعبه الاقتصادية وحده.. وإلا أخذنا معه وهو ينتحر».
مساء يوم 11 سبتمبر عام 2001 كان جرينسبان عائدا إلى واشنطن من زيورخ على طائرة «سويس إير» عندما أوقفه حارسه المرافق بوب أجينو ليخبره بالهجمات التى دمرت برجى التجارة فى نيويورك واقتحمت مبنى البنتاجون فى واشنطن.. وبلهجة فرنسية قال قائد الطائرة: «لابد من العودة إلى زيورخ لحماية الركاب حسب ما تلقيت من تعليمات فلا أحد يعرف ما ينتظرنا فى مطار الهبوط».
فى رحلة العودة انشغل بالتفكير فى الآثار الاقتصادية لتلك الهجمات.. منها الخوف من تدمير نظام الدفع الإلكترونى الذى يحول 4 تريليونات دولار يوميا من النقود والأوراق المالية بين بنوك العالم.. ومنها انهيار البورصات وضعف أسهم الشركات خاصة شركات الطيران والسياحة والترفيه.. وتأخر مقصات البنوك.. وزيادة معدلات البطالة.
وبعد أن اطمأن على زوجته أندرية ــ كبير مراسلى شبكة إيه بى سى ــ كان لابد أن يعود إلى واشنطن لمواجهة الموقف رغم توقف الرحلات التجارية.. وحدث ذلك على متن طائرة حربية كانت الوحيدة فى الجو.
ونجح جرينسبان فى معالجة آثار الكارثة بسرعة مناسبة وجدها فى خبرته وسيرته وشخصيته.. فما جمعه فى مشواره من دراسات وتجارب سابقة فى سنوات طويلة وجده معينا جاهزا للمواجهة هو وزملاؤه معا.
هنا يقدم درسا فى الإدارة ــ يصعب على كثير منا استيعابه ــ حين يقول: «إننى منذ سنوات حياتى المبكرة كنت أنظر إلى نفسى على أننى خبير يعمل من وراء الكواليس ومنفذا لما أتوصل إليه أنا وزملائى من قرارات وليس قائدا لهم».. «لم أشعر بالراحة أبدا وأنا وحدى فى دائرة الضوء».. و«لم أتخذ قرارا لسبب شخصى ولو كان الطرف الآخر عدوا أتمنى سحقه».. «إن الاعتبارات الشخصية فى المناصب المؤثرة هاوية تهدد من يقف على حافتها».
وفى تواضع يثير الإعجاب يضيف: «أنا لا أدعى معرفة الحلول كلها ولكن كنت أنا وزملائى نتصارع كل يوم فى وضع السياسات الاقتصادية بجانب ميزة تمتعت بها وهى استدعاء واحد أو أكثر من الخبراء دائما فالعقول «الفريش» تثير الحماس فى العقول الروتينية الصدئة والمكتفية بما تعرف».
لكن.. الأهم أنه لا يفصل الاقتصاد ــ الذى يعتبره البعض علما جامدا ــ عن الطبيعة البشرية.. فهو ليس معادلات وإحصائيات ونماذج رياضية مجردة عن عجز الموازنة ومستوى البطالة وفرص الاستثمار وميزان المدفوعات وغيرها.. وإنما ترجمة لقيم البشر وثقافاتهم وصحتهم وتعليمهم وشعورهم بالعدالة ونوعية الصحف التى يطالعونها والمسرحيات التى يشاهدونها واللوحات التى يقتنونها.. ولو لم تستوعب الحكومات تلك الحقيقة فإن الفشل سيكون مصيرها المحتوم.
(بعيدا عن المذكرات حققت الحكومات الأخيرة فى عهد مبارك مؤشرات اقتصادية جيدة لكن لم تجن ثمارها سوى مائتى عائلة دون أن تصل إلى الطبقات الفقيرة والمتوسطة فكانت الثورة على النظام).
ولدعم فكرته عن ارتباط الاقتصاد بالطبيعة البشرية يعترف جرينسبان بأن خبرته الاقتصادية بدأت بحبه للموسيقى (احترف عزف الكلارينت والبيانو والساكس وألف كونشرتات) ورغبته فى أن يكون لاعب بيسبول (لعب فى فريق الحى) وجنونه بأفلام الكاوبوى (خاصة مغامرات هوبالونج) وقراءة الروايات الشعبية (وأشهرها فى جيله رواية ذهب مع الريح) بجانب قراءات فى الفلك والفيزياء وفلسفة العلوم والقوى النووية.
ولاحظت أمه قدرته الشفهية فى جمع الأرقام وضربها وقسمتها.. وأهداه أبوه كتاباً عن جيسى ليفرمور.. أشهر مضارب على الأسهم فى العشرينيات الذى وصف بفتى وول ستريت.. «وكان دارسا للطبيعة البشرية» وحكيما.. يؤمن بأن «الثيران والدببة تكسب الأموال بينما الخنازير تذبح بالجملة».
ودخل جرينسبان كلية التجارة جامعة نيويورك ليدرس الآداب الإنسانية قبل أن يستوعب أصول المحاسبة وأسس الاقتصاد الذى سحره فلم ينج من الاهتمام به.. فحصل على أعلى شهاداته الأكاديمية.. وعمل باحثا فى أهم مؤسساته.. ونشر مقالات عنه.. وفهم كيفية التنبؤ به.. وتدرب على مواجهة أزماته.
بل أكثر من ذلك نجح بسبب استيعابه لعلوم مختلفة فى التوصل إلى معلومات سرية بالاستنتاج والحسابات العقلية.
لقد أخفى البنتاجون ما يحتاج من معادن فى منتصف خمسينيات القرن الماضى وهو يشيد مطارات جديدة لم يفصح عن عددها.. لكن.. جرينسبان راح يتصيد المعلومات من الكتب الفنية والهندسية واستخدام أوزان الطائرات فى تحديد الطلب على المواد التى تدخل فى صنعها وكتب مقالين بعنوان «اقتصاد القوات الجوية» دهش مخططى البنتاجون من شدة تطابق معلوماته مع معلوماتهم المحظورة.
وقبل أن يتولى منصب محافظ بنك الاحتياط الفيدرالى زاره عشرات المرات لكن ما أن أصبح مسئولا عنه حتى أدرك أنه ينقصه الكثير ليعرفه عنه وتأكد ذلك فى الدقيقة الأولى التى عبر فيها الباب.. كان أول من رحب به قائد حراسته بى دينيس بكلى وقد خاطبه قائلا: «سيدى الرئيس».. فقال له: «لا تكن سخيفا فالكل ينادوننى بآلان».. أوضح بكلى له برقة أن مناداة رئيس البنك باسمه المجرد ليس تقليدا متبعا.. فكان رده: «التقاليد ليست صنما نعبده وإنما علينا غالبا أن نكسره».
علم بعد ذلك أن هيئة العاملين فى البنك أعدت سلسلة من الدروس التعليمية المكثفة سميت بدبلوماسية «سيمنار الشخص الواحد».. وكان معنى ذلك أنه خلال العشرة أيام الأولى سوف يجتمع كبار العاملين المتخصصين فى قاعة بالطابق الرابع «يعلموننى وظيفتى» حسب ما ذكر.
ويضيف: «علمونى ما لم أكن أتوقع من القانون وتنظيم الأعمال المصرفية فى هذا النوع الفريد والخاص وغير التقليدى من البنوك.. ودهشت لأننى لم أصادفها قط عندما كنت عضو مجلس إدارة «جى بى مورجان» و«ياورى سيفنجير» (وغيرهما من البنوك التجارية والاستثمارية) فالمهمة الجديدة تختلف تماما عن خبراتى القديمة.. والربط بينهما فى حكومات أخرى خطأ شائع يقع فيه من لا يعرف الفرق بين بنك تجارى وبنك مركزى.. خبرة البنك التجارى ليست بالضرورة تؤدى إلى بنك مركزى.. ولابد أن يكون فهم محافظ البنك المركزى فى الاقتصاد أعلى.
ويمتلك بنك الاحتياط الفيدرالى «خبراء فى كل بعد من أبعاد الاقتصاديات الداخلية والخارجية بجانب قدرته السريعة على استدعاء المعلومات من كل مكان».. ومهمة المحافظ التمسك بهم وسماعهم وتحملهم والرجوع إليهم وتركهم يصوتون على القرارات قبله.
بل إنهم وحدهم يراقبون العمليات الاقتصادية اليومية دون تدخل من رئيسهم إلا فى القضايا غير العادية أو التى قد تثير اهتمام الكونجرس أو البيت الأبيض.
يقول جرينسبان: إن محافظ بنك الاحتياط الفيدرالى لا يتمتع سوى «بسلطة أحادية» أقل مما يوحى به اللقب.
ويضيف: «أنا طبقا للوائح أتحكم فقط فى جدول أعمال اجتماعات مجلس محافظى البنك أما المجلس فهو الذى يقرر الأمور الأخرى بالأغلبية وللرئيس صوت واحد من سبعة أصوات.. كما أننى لم أكن بشكل آلى رئيس لجنة الأسواق الفيدرالية المفتوحة وهى المجموعة القوية التى تتحكم فى سعر الفائدة الأساسى الذى هو الأداة الأولية للسياسة المالية الأمريكية (وغيرها).. وتضم اللجنة سبعة من محافظى المجلس ورؤساء فروع البنك فى الأقاليم وتتخذ قراراتها بالأغلبية.. وبينما جرى العرف على أن رئيس اللجنة هو رئيس المجلس فإنه لابد من انتخابه كل عام بواسطة الأعضاء وهم أحرار فى اختيار شخص آخر.. وكنت أعى باستمرار أن تمرد المحافظين الستة يمكنه إزالة كل سلطتى ما عدا كتابة جدول الأعمال».. وكان الفيصل قدرتى على التعلم مثل تلميذ صغير.. وكانت زوجتى تدهش عندما تجدنى فى عطلة نهاية الأسبوع أنكب على كتب يحملها ثلاثة رجال فى صناديق كبيرة».
«كنت أشعر بحاجة حقيقية إلى أن أعمل على الفور بجد ونجاح تحسبا لقرار صعب يمكن أن يتخذه البنك خاصة إذا ما تعلق الموقف بارتفاع الأسعار.. إن نسبة التضخم بلغت فى أيامى الأولى 3.6 بالمائة ووجدت أنها نسبة خطرة فالعادة أنه إذا ما بدأ التضخم حتى يتزايد.. وكان من الحكمة رفع سعر الفائدة رغم استقراره ثلاث سنوات ورغم مخاطر تأثيره على سوق الأسهم بما قد يسبب انكماشا».
وبالطبع لم يتخذ القرار بمفرده وإنما بعد مناقشات امتدت أكثر من أسبوعين شاركه فيها 18 خبيرا اقتصاديا محنكا وكانت الزيادة نصف فى المائة ورغم ذلك وصفتها صحيفة نيويورك تايمز بالحدة وإن حققت هدفها وساعتها وجد برقية من الرئيس الأسبق لبنك الاحتياط الفيدرالى كان نصها: «أنت الآن رجل بنوك مركزية».
لكن.. لو كان رفع سعر الفائدة أداة لخفض التضخم فإن خفض سعر الفائدة ضرورة لإخراج الاقتصاد من حالة الكساد.. خاصة فى أوقات الذعر المالى وانهيار البورصة.. كما حدث يوم « الاثنين الأسود» حيث هبطت مؤشرات أسواق المال إلى حد الجنون.. وتدافع حاملو الأسهم إلى بيعها ما هدد مئات الشركات بغلق أبوابها.
هنا قال جرينسبان لنفسه «سنرى الآن من أى معدن أنت».
لقد كان عليه إقناع اللاعبين فى وول ستريت بالبقاء فى اللعبة.. وترك المهمة للأكثر خبرة.. محافظ بنك الاحتياط الفيدرالى فى نيويورك جيرى كوريجان الذى وصفه بالأكثر حنكة معترفا بأن لا غيره يصلح أكثر منه ليكون كبير منفذى سياسة البنك.. إن القائد الناجح لا يخشى مساعدين أقوياء.. ولا يخشى الإشادة بهم.
ولضمان عدم التذبذب فى السياسات المالية يظل رئيس بنك الاحتياط الفيدرالى ومحافظوه فى مناصبهم 14 سنة.. ليكونوا بعيدين عن التغيرات الرئاسية.. وهم يعينون بقرار من الرئيس ولكن بعد العرض على الكونجرس.. والأهم بعد فحص سجلات خبراتهم بدقة متناهية.
ويرفع البنك تقريرا للكونجرس مرتين فى السنة.. وليس بالضرورة أن يكون على وفاق دائم مع البيت الأبيض.. ويمول نفسه ذاتيا من فوائد عائد سندات الخزانة وغيرها من الأصول التى فى حوزته.. ما يعطيه الحرية فى التركيز على مهمته القانونية «وهى إيجاد الظروف المالية اللازمة لأقصى قدر ممكن من النمو المستدام طويل المدى وزيادة فرص التشغيل بالعمل على استقرار الأسعار.. ويعنى ذلك عمليا احتواء الضغوط التضخمية».
لقد تكررت الأزمات الحادة التى كان على جرينسبان مواجهتها.. ولكن.. لم أقرأ طوال مذكراته التى تزيد على 600 صفحة كلمة واحدة عن تدخله فى حماية الدولار أو استخدام سعر الفائدة لمساندته.. فوظيفة البنوك المركزية إدارة الاقتصاد ورقابة البنوك وليس مراقبة الاقتصاد وإدارة البنوك.
إنها مذكرات صعبة.. تحتاج نفسا طويلا فى قراءتها.. وخبرة عريضة فى استيعابها.. لكن.. الرجوع إليها وقت الأزمات ضرورة.. ليس للتقليد وإنما للاستفادة.. ولو كان أحد لا يجدها فالنسخة التى احتفظ بها جاهزة لتكون بين يديه فور طلبها.