عادل حمودة يكتب: عودة «الحاج والرجل الأخضر وملكة بريطانيا» إلى النواصى السرية لتجارة العملة
البوليس لن يستطيع الإمساك بالدولار وحبسه فى بيت الطاعة
أعراض الأزمة
■ فرق 20% بين سعر البنك وسعر السوق
■ زيادة الطلب على الذهب والعقار والعملات الأجنبية
■ عجز فى تمويل مستلزمات المصانع المستوردة ما أدى إلى إغلاق المئات منها وزيادة البطالة
■ تراجع الاستثمار الخارجى وتداول البورصة وتحويلات المصريين فى الخارج
روشتة العلاج
■ الاستفادة من دروس الماضى وعدم اللجوء إلى الإجراءات الأمنية حتى لا تضطر الحكومة إلى شراء ما تحتاج من تجار العملة الذين لا تعترف بهم رسميا
■ ترك سعر الصرف إلى العرض والطلب يرفع سعر السلع المستوردة ويزيد الطلب على المحلى
■ الحكومة تدعم السلع الأساسية وتمولها من مواردها فلا يتأثر الفقراء
■ تنشيط البورصة بطرح حصص الدولة فى البنوك والشركات والفنادق لجذب رءوس أموال أجنبية
■ ترك البنوك التجارية تتعامل مع تحويلات المصريين فى الخارج بالسعر الحقيقى
■ عدم ترك البنك المركزى وحده فى المواجهة فلن يتحمل النتيجة وحده وإنما سنشاركه فيها جميعا
فى مجلس النواب تعديلات تشريعية تجيز للبوليس مطاردة الدولار بعد أن عجز البنك المركزى عن الإمساك به.
كل من يتاجر فى العملات أو يهربها يعاقب بالحبس والغرامة والمصادرة.
فى الوقت نفسه ألغيت تراخيص 37 صرافة وأحيلت 15 صرافة أخرى إلى النيابة العامة لتعود تجارة العملة من جديد إلى البيوت والنواصى والمقاهى وأكشاك السجائر والحارات المظلمة مستردة شفرتها السرية القديمة.. الريال يوصف بالحاج.. والدولار يسمونه الرجل الأخضر.. والإسترلينى يمنحونه لقب الملكة.
وأمام محرر رويترز فى القاهرة فتح رجل بجرأة شنطة سيارته وأخرج منها كيسا أسود من النوع المستخدم فى جمع القمامة ليظهر فيه عملات أجنبية قيمتها 11 مليون جنيه فليس هناك ما يمنع حتى الآن من حملها مهما بلغ حجمها.
عدنا إلى الحل الأمنى بعد أن فشلنا فى غيره.. دون أن نستوعب حساسية العملة لكل ما يحدث حولها.. يصدر حكم يختص بجزيرتى تيران وصنافير تصاب العملة بالتوتر.. تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى فتعانى من الصداع النصفى.. يرتفع سعر الذهب فتفكر فى الانتحار.
ورطنا الداخلية من جديد فيما لا ينقصها.. ونسينا دروسًا سابقة.. تصورت أننا استفدنا منها.. وتجاوزناها.
منها أن العملة لن تقبل العودة لبيت الطاعة.
ومنها أن الدولار سلعة مثل غيرها من السلع يحدد سعرها بدقة العرض والطلب ولو باعتها البنوك بسعر رسمى أقل من سعرها الفعلى فإنها تدعمها بفرق السعرين.
ومنها أن حائزى العملات لن يبيعوها إلا بالسعر الأعلى مهما كانت المتاعب والمخاطر التى تفرضها إجراءات إدارية لن تجدى.. وليس ذلك نوعا من الخيانة الوطنية.. وإنما هو طبيعة المصلحة الشخصية.
ومنها أن اختفاء الصرافة الرسمية سيخلق ما يمكن وصفه بالصرافة الشعبية.. حيث يصبح كل من يملك دولارا تاجر عملة.
ومنها أن عدم استقرار سعر الصرف ربما يوقف عمليات التداول.. فالبائع يتوقع سعرا أعلى والمشترى ينتظر سعرا أقل.
وأخشى أن توضع حكومة شريف إسماعيل فى نفس الموقف الحرج الذى وجدت حكومة عاطف صدقى نفسها فيه حين أجبرت على الاجتماع بكبار تجار العملة (مثل سامى على حسن وأحمد الريان وأشرف السعد) فى مجلس الوزراء راجية أن يبيعوا لها نصف مليار دولار بالسعر الرسمى لاستيراد سكر وزيت وذرة صفراء.
كانت الحكومة تحاربهم علنا وتتعامل معهم سرا.
لقد نشطت وقتها مباحث الأموال العامة فى القبض على تجار العملة لكنها لم تستطع القضاء على التجارة ذاتها.. نفس ما يحدث مع تجار المخدرات رغم شدة العقوبة التى تصل أحيانا إلى الإعدام.. يسقط التجار وتستمر التجارة.
وربما.. نفاجأ لو كشفنا أن الحكومة ذاتها تعترف بسعر السوق السوداء للعملات.. بل وتزيد عليه.. فقد سمعت وأتمنى خطأ ما سمعت أنها قبلت أن تحول للشركات متعددة الجنسيات (مثل بيبسى) ما تريد من دولار بسعر 13 جنيهًا متجاوزة السعر السائد سرا بأكثر من جنيهين.
ولست فى حاجة للقول إن ارتباك سعر الصرف يؤثر على جميع المؤشرات الاقتصادية.. يلهب أسعار السلع بما فى ذلك السلع المنتجة محليا التى زادت أسعارها بنسبة (50%).. مما زاد من فاتورة الدعم.. وانخفت نسبة الاستثمار إلى (6%) من الناتج المحلى.. وصعدت نسبة الاستهلاك إلى (95%) من الناتج المحلى.. وانكمشت تعاملات البورصة.. وخوفا من انهيار الجنيه تضاعفت جاذبية الطلب على العقار والذهب والعملات الأجنبية حفاظا على قيمة الجنيه.. وانكمش الاستثمار مقتربا من حدود الانصراف.. وعادت البطالة لشراستها التى حجمت وقيدت.
سمعت من شريف إسماعيل أنه لو جاء شخص ليستثمر مليار دولار ووضعها فى البنك فإنه يخسر الفرق بين سعر الدولار فى البنك وسعره فى السوق السوداء.. فلو كان الفرق جنيها خسر مليار جنيه قبل أن يبدأ مشروعه.. فلم يأت ويغامر؟.. والأسوأ أن الفرق وصل إلى نحو (20%).. مما يعنى أن خسارة ذلك المستثمر ستزيد على المليارى جنيه لو جاء إلى مصر اليوم.
وللأزمة سبب واحد ووحيد.. نقص موارد النقد الأجنبى فى وقت لم يزد الاحتياطى فيه عن 17 مليار دولار.. أما النقص فيعود إلى تراجع عائدات السياحة بسبب الحوادث الإرهابية (15 إلى 17 مليار دولار).. وانخفاض إيرادات القناة بعد تراجع التجارة الدولية وتراجع معدلات النمو فى كثير من اقتصاديات العالم.. ونقص السيولة الدولارية فى غياب تدفقات رءوس المال الأجنبية على البورصة فقد انخفض تداولها اليومى من 1.5 مليار دولار (قبل عام 2011) إلى 300 مليون دولار مؤخرا.
وأهم الأعراض إحجام المصريين فى الخارج عن تحويل ودائعهم فى الخارج (140 مليار دولار) أو تحويل ما يكسبون من عملهم فى الخارج (15 مليارًا سنويا) عبر القنوات الشرعية بعد أن أصدر محافظ البنك المركزى السابق (هشام رامز) قرارات التضييق على سحب وإيداع العملات الأجنبية فى البنوك.. وسبق أن فندنا الآثار السلبية للقرارت فى حينها.. ومنها اللجوء إلى شركات الصرافة لتغطية احتياجات المستوردين من حساباتها فى بنوك تركية.. ونشرنا مستندات تثبت ذلك.. ومنها عودة شركات الصرافة الخليجية لجذب تحويلات المصريين هناك وتوصيلها إلى ذويهم فى أصغر قرية فى الريف والصعيد وحرمان البلاد منها.
وجاء المحافظ الحالى ليلغى ما صدر عن سلفه.. وهدأت السوق لبعض الوقت.. لكنها.. عادت وتمردت من جديد لضعف أسلحة المواجهة.. وأهمها احتياطى من العملات يسمح بتجاوز الأزمة أو التخفيف منها.. وزيادة الطلب على الدولار لتغطية احتياجاتنا السنوية (80 مليارًا) وتراجع فى الطلب مما أدى إلى متاعب لا حد لها للصناعات المحلية التى تستورد كثيرًا من موادها الخام من الخارج.
وتكاد مصر تنفرد بظاهرة تعيين محافظ للبنك المركزى من قيادات البنوك التجارية.. فلا علاقة بين خبرة البنوك التجارية (فى الائتمان والادخار والتمويل والتحويلات النقدية) وبين وظيفة البنك المركزى التى تعد حسب ما درسنا فى كلية الاقتصاد على يد (الدكتور زكى شافعى) تنحصر فى استخدام سعر الفائدة فى مواجهة التضخم وزيادة الاستثمار والتخفيف من البطالة.
ليس للبنك المركزى دور فى تحديد سعر الصرف خاصة فى السوق الحرة.. لقد ورطه الإعلام فى ذلك وأصبح نجاح وفشل محافظه مرتبطا برفع قيمة الجنيه أو عدم خفضه فى أسوأ الأحوال.. فاستخدم رفع سعر الفائدة لدعم الجنيه وليس لمحاربة الغلاء مما أثر على كثير من المؤشرات الاقتصادية.. ومنها الاستثمار.. فلو كنت تمتلك مليار جنيه فما الداعى لاستثمارها لو كانت تدر دون مخاطر عائدا سنويا يزيد على «13%».
وليس هناك مخرج للأزمة سوى ترك الدولار للعرض والطلب وترك البنوك التجارية تتعامل معه بالسعر الحقيقى.. ولو أصيب السعر بالحمى فإنه سرعان ما يهدأ ويستقر ويصبح طبيعيا.. فالتدفقات دون قيود إدارية أو بوليسية أو قانونية ستحقق التوزان.
وسيساعد سعر الصرف المستقر على زيادة الصادرات وتدفقات رءوس المال الأجنبية على البورصة بشرط طرح أجزاء من حصص الدولة فى البورصة.. وتمتلك الدولة حصصا فى بنوك القاهرة والمصرف المتحد والبنك العربى الإفريقى وبنك قناة السويس والعربى الدولى.. بجانب حصص أخرى فى مصر للتأمين والمقاولون العرب ومصر للألومنيوم وحديد السويس والقومية للأسمنت وشركات البترول والغاز (إيجاس وأموك وسوميد وسيدى كرير) ومصر للطيران وأبوقير للأسمنت ومدينة الإنتاج الإعلامى ونايل ستى وفنادق (ماريوت ومينا هاوس وريتز كارلتون وشبرد وشهرزاد وكتركت والميريديان وهلنان وفلسطين).. وأتصور أن هذا ما تفكر فيه الحكومة المشغولة الآن بتقييم تلك المؤسسات.
ولا شك أن ارتفاع سعر الدولار سيزيد من أسعار السلع المستوردة مما يقلل الطلب عليها ويزيد الطلب على البديل المحلى الأقل سعرًا.
أما الزيادة المتوقعة فى أسعار السلع الأساسية فعلاجها بتدخل حكومى يدعمها بما لا يؤثر على معيشة الفقراء ويمكن أن تمولها الحكومة من مواردها الدولارية.
ولاشك أن كل الإجراءات ستؤدى إلى تعظيم الاستفادة من المساعدات الخارجية (خاصة السعودية والخليجية) فسوف تتجاوز الفجوة المالية المتسبب فيها تحديات سعر الصرف إلى دفعة مالية يمكن توظيفها فى أنشطة أكثر إنتاجية تحسن من مستويات النمو.. خاصة أن فترة شهر العسل التى أتاحتها الظروف الإقليمية والدولية لن تدوم طويلا.
إن الأزمة ليست مسئولية محافظ البنك المركزى وحده ليواجهها بمفرده بينما غيره من المسئولين عن باقى النواحى المالية والاقتصادية يضعون أيديهم فى مياه باردة منتظرين ما سيدفع من ثمن دون أن يدركوا أننا جميعا سنشاركه فيه.