عادل حمودة يكتب: محمد شرين فهمى.. حكاية قاضٍ جرىء بين وزير دفاع ورئيس جمهورية
الوجه الآخر للخبرة التى يمتلكها المستشار محمد شرين فهمى رئيس الدائرة (11 إرهاب) التى حكمت منذ أيام فى جناية التخابر مع قطر جرأة تميز بها منذ بداية حياته القضائية.. البحر يبدأ بقطرة .. والغابة تبدأ بشجرة .. والشجاعة تبدأ بمواجهة الكبار .
فى عامل 1987 انتدب وهو رئيس نيابة التهرب الضريبى للتحقيق فى الرشاوى التى قدمها أحمد الريان (مؤسس أشهر شركات توظيف الأموال) إلى شخصيات مؤثرة فى الحكومة والصحافة والشرطة ومجلس الشعب وعرفت بقضية «كشوف البركة» .
وخلال استجواب وسيط الرشوة (حسنى رضا وكان عمه وزيرا للزراعة) فوجئ برجل يرتدى الملابس المدنية ويحمل سلاحا ويقتحم غرفة التحقيق قائلا:
أنا يا فندم سامى صادق كنت حارسا شخصيا للمشير عبد الغنى الجمسى وأنا الآن الحارس المرافق للمهندس وليد أبوغزالة وهو يقف بالباب ويستعد للدخول».
أبوغزالة مين؟ المشير؟ وزير الدفاع؟.
«بالضبط كده»!
غضب محمد شرين فهمى مما سمع وأمر بالقبض على الحارس وتجريده من سلاحه والتحفظ عليه وفى تلك اللحظة وجد وليد أبوغزالة أمامه قائلا بغطرسة واستهتار يصعب تجاهلهما:
حسنى رضا صديقى وأطالب بالإفراج عنه بضمان شخصى مع التأكيد على براءته.
هل لديك ما يثبت شخصيتك؟ .
طلب وليد أبوغزالة من حارسه إحضار محفظته من السيارة لتصبح تحت تصرف النيابة بما فيها من وثائق خاصة .. بطاقة شخصية .. رخصة قيادة .. وورقة تحذر من اعتراض حامها.. خاتم النسر فيها لونه أحمر.
احتفظ شرين فهمى بتلك الأوراق داعيا وليد أبوغزالة إلى كتابة طلب رسمى يحدد فيه ما يشاء من رغبات .. ووقع « الشاب فى الفخ .. وأمسك بورقة وقلم وكتب بخط يصعب قراءته مطالبا بالإفراج عن المتهم صاحبه «على ضمانته الشخصية « ووقع بوصف ولقب «الباشمهندس وليد أبوغزالة».
لم يستأذن رئيس النيابة شرين فهمى المحامى العام لنيابة الأموال العامة حسنى الشربينى ولم يرجع إلى النائب العام وقتها المستشار جمال شومان وأمر بالقبض على وليد أبوغزالة وحارسه.
حسب ما نشر أشرف السعد فى صفحة (168) من مذكراته «محطات فى حياتى» فإن سامى صادق روى ما حدث له فيما بعد قائلا:
«أقسم بالله يا عم الحاج أن شرين فهمى (عندما وجدنا أمامه) تحول إلى وحش كاسر وقام بنفسه وهو يصرخ فى الحرس «اقبضوا عليهم» وفى ثانية كان حولنا عشرين ضابطا وعسكريا مرعوبين منه وأدوا له التحية وقال رئيسهم أؤمر يا فندم» فقال لهم «45 يوم حبسا وينزلوا حجز المحكمة حالا ولو جاء المشير هنا حطوه معاهم».
وأضاف: «والله يا عم الحاج أنا افتكرت أنه سيلفظ أنفاسه من كتر الانفعال وحطوا الحديد فى يدى ويد وليد فتيقنت أننى لن أرى الشمس مرة أخرى والغريب أنه نزل مع الحرس بنفسه للحجز واطمأن أننا دخلناه مطالبا بأن نترحل فى نفس اليوم إلى طرة «.
وقبل أن تمر الساعة انقلبت الدنيا وحاول مسئولون من جهات مختلفة تهدئة شرين فهمى «وأن يلم الدور» لكنه أقسم «بأنه لو تدخل أحد حتى لو مبارك فسيقدم استقالته» صفحة 171.
وينهى أشرف السعد تلك الشهادة قائلا: «رغم أننى وقفت أمامه ورأيت فى وجهه شراسة إلا أننى أقر وأعترف أن أى دولة فى العالم لو عندها خمسة قضاة مثل محمد شرين فهمى يكفيها لتفخر بوجود أقوى وأنزه مؤسسة قضائية فى التاريخ» صفحة 170.
لقد وضع محمد شرين فهمى مستقبله فى كفة وتنفيذ القانون على ابن وزير الدفاع فى الكفة الأخرى.
وعندما وصل الأمر إلى أبوغزالة رد فى هدوء:
«لو كان ابنى احبسوه».
اتضح أن المشير له ولدان هما طارق وشريف «لم يستغلا نفوذ والدهما» وأن وليد ابن شقيقه يحيى هو الذى استغل لقب العائلة فى عمليات غير مشروعة وضعته فى مواقف قانونية صعبة.. لكن .. ما يلفت النظر هنا أن لا أحد فكر فى التأكد من أنه ابن وزير الدفاع .. واستسلم الجميع لادعائه منفذين أوامره .. لكن .. كان هناك محقق شاب لم يخش أحدا وأصر على أن القانون فوق رؤوس الجميع واتخذ قراراته بجرأة مصرا عليها مهما كان الثمن .. بل أكثر من ذلك عرف فيما بعد عندما التقى وزير الداخلية وقتها اللواء زكى بدر أن هناك جهات طلبات تحريات عن انتماءاته السياسية .. وكأنهم لا يصدقون وجود قاض يواجه التيار احتراما للعدالة.
هذا هو المستشار محمد شرين فهمى الذى ينظر أخطر قضايا الإرهاب .. يحكم بضمير القاضى مطمئنا إلى ما يصل إليه بعد فحص وتحقيق وطول صبر .. ويثبت أن فى مصر قضاة يحافظون على استقلالهم وألا ينفى ذلك حاجتنا إلى مزيد من إصلاح منظومة العدالة.
لقد حكم فى منتصف أكتوبر الماضى ببراءة محمد الظواهرى (شقيق أيمن الظواهرى رئيس تنظيم القاعدة) فى قضية «إحياء تنظيم القاعدة» التى اشتهرت بـ«خلية الظواهرى» رغم أن النيابة وجهت إليه اتهامات شديدة تنتهى به إلى المشنقة «منها» إنشاء وإدارة تنظيم إرهابى يرتبط بتنظيم القاعدة ويستهدف منشآت الدولة وقواتها المسلحة وجهاز الشرطة والمواطنين والأقباط بأعمال إرهابية بغية نشر الفوضى وتعريض أمن المجتمع للخطر».
وشملت البراءة 15 متهما غيره كانوا بين 68 قدموا للمحاكمة.
وفى قضية «التخابر مع قطر» حكم على محمد مرسى بالبراءة والإدانة معا.
لقد شمل أمر الإحالة عشرة اتهامات وجهت إلى 11 متهما.
برأت المحكمة محمد مرسى من الاتهام الأول (الحصول على أسرار الدفاع بقصد تسليمها إلى دولة أجنبية) وبرأت أحمد عبد العاطى وأمين الصيرفى وخالد رضوان ومحمد عادل كيلانى وكريمة الصيرفى وأسماء الخطيب من الاتهام ذاته.
لكنها قضت بعقاب محمد مرسى بالسجن المؤبد (25 سنة) فى الاتهام التاسع (البعيد عن قضية التخابر) وهو تولى قيادة جماعة (الإخوان) التى أسست على خلاف القانون وتهدف إلى تعطيل الدستور ومنع مؤسسات الدولة والسلطات العامة من ممارسة أعمالها والاعتداء على الحرية الشخصية للمواطنين والإضرار بالوحدة الوطنية.
وفى صلب قضية التخابر حكم عليه بالسجن 15 عاما .. استنادا للاتهام الرابع وينص على: أنه ارتكب جريمة « اختلاس واخفاء أوراق يعلم أنها تتعلق بأمن الدولة وبمصالحها القومية بأن حصل على الوثائق والمستندات العسكرية التى تحوى أسرار الدفاع ومسلمة إليه بسبب وظيفته واحتفظ بها لنفسه بنية تملكها ولم يردها للأماكن المعدة لحفظها بالحرس الجمهورى وسلمها للمتهم الثالث أمين الصيرفى لإخفائها.
وحسب ما عرفت فإنه أبقى على مكتبه 16 وثيقة شديدة السرية نحو السنة وطلب منه أربع مرات إعادتها لكنه رفض ..ما جعله ينتقل من حالة الاقتناء المؤقت للوثائق إلى حالة الاقنناء الدائم .. ممتلكا ما لا يملك .. محتفظا بما لا يجوز الاحتفاظ به .. ما منح المتهمين الآخرين فرصة الحصول عليها .. وما كانوا ليحصلوا عليها لو تصرف حسب القواعد والأصول المفروضة على الرئيس.
ويتميز المستشار شرين فهمى بطول النفس فى محاكماته فالقضية الأخيرة بدأت منذ نحو عامين واستغرقت 99 جلسة .. سجلت فى أكثر من ألف صفحة .. وحضر أمامها 48 شاهدا من بينهم قيادات الدولة الذين عاصروا الأحداث.
وبجانب الدقة فى عمله يعرف جيدا أن أحكامه فى قضايا الإرهاب ستوضع على موائد الفحص فى الجهات القضائية والسياسية على خريطة العالم من بكين إلى جوهانسبرج .. ومن واشنطن إلى مانيلا.
وهو يثق فى أن أحكامه يصعب الطعن عليها بالنقض لذلك يأخذ الوقت الكافى لكتابة أسبابها قبل النطق بها.
وتوصف محاكماته بالصرامة فى الانضباط .. وربما .. كان أول من طبق المادة (244 من قانون الإجراءات الجنائية) وحبس حازم أبوإسماعيل بتهمة منصة القضاء قبل أن يحكم عليه بالسجن 7 سنوات فى قضية جنسية والدته الأمريكية.
وفى تاريخه المهنى قضايا وصفت بالخطورة ووصف أغلبها بأنها قضايا «رأى عام» .. منها قضية توظيف الأموال التى اعترف فيها أحمد الريان بأسماء كبار المسئولين الذين تقاضوا منهم رشاوى ثمينة .. وقضية «الرشوة الكبرى» التى اتهم فيها 27 وكيلا فى وزارة الصناعة (1986).. وغيرها من القضايا الاقتصادية التى مثل فيها الادعاء حين كان رئيسا لنيابة التهرب الضريبى قبل أن يصبح محاميا عاما لنيابة الأموال العامة.
وما أن انتقل إلى الجنايات حتى لاحقته القضايا الكبرى ومنها قضية ممرضة الإسكندرية «عايدة» التى وقعت فى غرام طبيب شاب لم يقبل بها فأرادت الإضرار به بدس مواد طبية قاتلة لمرضاه وعرضت الواقعة فى مسلسل تليفزيونى تعاطف مع الجانية على خلاف الحقيقة.
وقضية «حركة قضاة من أجل مصر» التى أحيل فيها 40 قاضيا إلى مجالس التأديب ــ الصلاحية ــ أبرزهم وليد شرابى وزكريا عبدالعزيز.
وقضية «التنصت على مكتب النائب العام» التى اتهم فيها النائب العام الأسبق طلعت عبدالله ومساعده المستشار حسن ياسين وخرجا الاثنان من سلك العدالة لعدم الصلاحية.
وقضية تعذيب معاون مباحث خلال فض اعتصام رابعة وسجن فيها صفوت حجازى ومحمد البلتاجى عشرين عاما.
ولعل أخطر قضية ينظرها الآن قضية «كتائب أنصار الشريعة» المتهم فيها 23 شابا ورفض طلب دفاعهم برد المحكمة.
وخطورة القضية فى أن المتهمين فيها تلقوا تدريبات عالية فى سوريا على يد خبراء محترفين سعوا لإسقاط النظام هناك .. وتشمل الوثائق المضبوطة فى حوزتهم ما يدلل على استيعابهم لكافة أنواع الأسلحة .. وكيفية اختطاف الرهائن .. وضرورة التخلص من الرهائن ولو استجابت السلطات لمطالبهم فى الإفراج عن معتقلين ينتمون لتنظيمات إرهابية متحالفة معهم .. بجانب خطط اقتحام موكب رئيس الجمهورية .. وأساليب تعطيل سيارات الإعاقة الإلكترونية التى تشوش على أجهزة الموبايل المستخدمة فى التفجيرات عن بعد.
وتجسد تلك الوثائق ما وصلت إليه التطورات والتغيرات التكنولوجية فى تنفيذ العمليات الإرهابية .. وحسب ما عرفت فإن هيئة المحكمة أرسلت نسخا منها إلى الجهات الأمنية المختصة لدراستها والاستفادة منها وتغيير خططها وأسلحتها لمواجهتها.
ولابد أن قاضيا مثل شرين فهمى بشجاعته فى تنفيذ القانون ومحاسبة كل من يتجاوز ويخرج عنه يعيش تحت تهديد مستمر .. خاصة أن عددا من زملائه أبرزهم النائب العام السابق المستشار هشام بركات دفعوا حياتهم وهم يؤدون واجبهم فى حماية الوطن وسلامة المواطنين.
وأتصور أنه تلقى تهديدات كتابية وصلت إلى مقر محكمته كما أنه تعرض لمتاعب فى أحباله الصوتية قبل أيام من النطق بالحكم فى قضية التخابر مع قطر.
إن للعدالة فى بلادنا حراسا لا يخشون فى الحق كل ما يتربص بهم من أخطار .. يقف فى الصف الأول منهم شرين فهمى.