حكم الصوم في السفر وأخذ حبوب منع الدورة
السؤال:
أريد أن أستفيدَ مِن فضل العَشْر الأَوَاخِر من رمضان، وفي هذا الوقت يُوَافق مَوْعد الدَّوْرة الشَّهريَّة، ولا أريدُ أن أُضَيِّعَ فرصة قراءة القرآن، وصلاة التَّهَجُّد، والدُّعاء في اللَّيل والنهار؛ لِمَا للعَشْر الأخيرة مِن أجرٍ مضاعَفٍ، وخيرٍ كثيرٍ، وبها ليلةٌ خيرٌ مِن ألفِ شهر، فأريدُ أن أَتَنَاوَلَ حُبُوبًا لتأخير الدَّوْرة للضَّرورة، فما الحكم في ذلك؟
وما حُكْم الإفطار للمُسافر في نهار رمضان لأداء العمرة، أيُّهُما أفضل: الإفطار أم الإمساك؛ رغم أنَّ والدي يُصِرُّ على إفطارنا عند السَّفَر للعمرة؛ لِمَا بالطريق مِن تَعَبٍ، وبُعْد المسافة؟
الإجابة:
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فقد ذَهَب كثير منَ العلماء المعاصرين: إلى أنَّه لا مانع مِن استخدام الأدوية، التي ترفع الحَيْض لِمُدَّةٍ معلومةٍ أو تؤخِّره، ما لَمْ تَضرَّ بالمرأة.
وقد رَوَى سعيد بن منصور، عن ابن عمر رضي الله عنه "أنَّه سُئِل عنِ المرأة، تشتري الدواء؛ ليرتفعَ حَيْضُها، فلم يَرَ بِه بأسًا، ونَعَتَ – أي: وَصَف - لهنَّ ماءَ الأراك". قال محب الدِّين الطبري: "وإذا اعْتُدَّ بارتفاعه في هذه الصورة، اعْتُدَّ بارتفاعه في انقضاء العِدَّة، وسائر الصور".
قال الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: "لا حَرَجَ أن تَأْخُذَ المرأةُ حبوبًا تمنع الدورة الشهرية أيامَ رمضان؛ حتى تصوم مع الناس، وفي أيام الحجِّ؛ حتى تطوف مع الناس، ولا تَتَعَطَّلَ عن أعمال الحج، وإن وُجِد غيرُ الحُبُوب شيء يمنع منَ الدَّوْرَة، فلا بأس، إذا لم يكن فيه محذورٌ شرعًا، أو مَضَرَّة". "فتاوى ابن باز".
وقد صَرَّح الفقهاء رحمهم الله بِجَواز ما هو أبلغ من ذلك، وهو شرب الدَّواء المباح؛ لقطع الحَيْض كُليًّا، مع أَمْنِ الضَّرَر، نصَّ عليه الإمام أحمد، لكن بشرط إذْنِ الزَّوْج لها بذلك؛ لأنَّ له حقًّا في الوَلَد.
قال المرداويُّ في "الإنْصاف": "يَجُوز شُرْبُ دواءٍ مباحٍ لقَطْع الحَيْض مُطْلقًا، مع أَمْنِ الضَّرر، على الصَّحيح منَ المذهَب".اهـ.
وقال في "كَشَّاف القناع": ويَجُوز شُرْب دواء مباح؛ لقطع الحيض مع أمْنِ الضَّرر".
وإن كنَّا نَنْصَحُ الأختَ السائلة، بِعَدَمِ تناوُل تلك الحبوب؛ لأنَّ للهِ حكمةً في إيجاد الحَيْض للمرأة، فإذا مَنَعَتْه؛ فلا شكَّ أنه سيحدُثُ من حَبْسِه ردُّ فعلٍ ضارٍّ بالمرأة، والقاعدةُ الشَّرعيَّة المقرَّرة : "لا ضَرَرَ، ولا ضِرَار"، وقد أثبت الأطبَّاء - بالفعل - أنَّ هذه الحُبُوب تُسبِّب الضَّرر للرَّحِمْ، وقد يُؤَدِّي هذا الضَّررُ - لا قَدَّرَ الله - إلى اضطرابٍ، أو خَلَلٍ في الدَّوْرة، حتى بعد تَرْكِ الحُبُوب، مما قد يُؤَثِّر تأثيرًا مباشرًا على الإنجاب، ولو راجعتي إحدى الطبيبات المسلمات الماهرات، لكان أفضل.
ولمزيد فائدة يرجى مراجعة فتوى: "حكم استعمال حبوب منع الحيض"، لسماحة الشيخ/ محمد بن صالح بن العُثَيْمين، على موقعنا.
أمَّا المسافر فلا يجب عليه الصَّوم ولا الفطر، فيشرع له الصوم أو الإفطار؛ قال أنس رضي الله عنه: "كنَّا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يَعِبِ الصائمُ على المفطر، ولا المفطرُ على الصائم" (متَّفَق عليه).
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنَّ حمزة بن عمرو الأسلمي، قال: "يا رسول الله، أأصوم في السفر؟"، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن شئتَ فَصُم، وإن شئتَ فأفطر" (متفق عليه).
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "الفِطْرُ لِلمُسَافِرِ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، سَوَاءٌ كَانَ سَفَرَ حَجٍّ، أَم جِهَادٍ، أَم تِجَارَةٍ، أَم نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْفَارِ، الَّتِي لَا يَكْرَهُهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَمْ تَتَنَازَعِ الْأُمَّةُ فِي جَوَازِ الفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ؛ بَلْ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الصِّيَامِ لِلْمُسَافِرِ، فَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ: إلَى أَنَّ الصَّائِمَ فِي السَّفَرِ، كَالمُفْطِرِ فِي الحَضَرِ، وَأنَّهُ إذَا صَامَ لَمْ يَجْزِهِ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بن عَوْف، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمَا، مِنَ السَّلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ"؛ لَكِنْ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَصُومَ وَأَنْ يُفْطِرَ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: "كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ، فَمِنَّا الصَّائِمُ، وَمِنَّا المُفْطِرُ، فَلَا يَعِيبُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ".
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وَفِي "المُسْنَدِ"، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ"، وَفِي الصَّحِيحِ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي رَجُلٌ أُكْثِرُ الصَّوْمَ، أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: "إنْ أَفْطَرْت فَحَسَنٌ، وَإِنْ صُمْت فَلَا بَأْسَ"، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "خِيَارُكُم الَّذِينَ فِي السَّفَرِ يَقْصُرُونَ وَيُفْطِرُونَ".اهـ.
وأما من ناحية الأفضليَّة، فالفطر أفضل منَ الصيام والإتمام؛ لما ثبت من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن تؤتى رُخَصه، كما يحب أن تُؤْتَى عزائمه" (رواه أحمد عن ابن عمر)، ولتحَسينه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفِطْرَ في حديث عائشة السابق، وَرَفَعَ البَأْسَ عَن الصَّوْمِ، ولا شك أنَّ التحسين أفضل من رَفْع البَأْس.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يُنَافِي إذْنَهُ لَهُمْ فِي الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَإِنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ مِنَ البِرِّ، وَلَمْ يَنْفِ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا مُبَاحًا، وَالفَرْضُ يَسْقُطُ بِفِعْلِ النَّوْعِ الجَائِزِ المُبَاحِ، إذَا أَتَى بِالمَأْمُورِ بِهِ، وَالمُرَادُ بِهِ كَوْنُهُ فِي السَّفَرِ لَيْسَ مِنَ البِرِّ، كَمَا لَوْ صَامَ وَعَطَّشَ نَفْسَهُ بِأَكْلِ الْمَالِحِ، أَوْ صَامَ وَأَضْحَى لِلشَّمْسِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ فِي الشَّمْسِ، وَلِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ بن عُيَيْنَةَ: مَعْنَاهُ لَيْسَ مَنْ صَامَ بِأَبَرَّ مِمَّنْ لَمْ يَصُمْ.
فَفِي هَذَا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الفِطْرَ أَفْضَلُ، فَإِنَّهُ آخِرُ الأَمْرَيْنِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ صَامَ أَوَّلًا فِي السَّفَرِ، ثُمَّ أَفْطَرَ فِيهِ، وَمَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ نَقْصٌ فِي الدِّينِ، فَهَذَا مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ، وَإِذَا صَامَ عَلَى هَذَا الوَجْهِ، مُعْتَقِدًا وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَيْهِ، وَتَحْرِيمَ الفِطْرِ - فَقَدْ أَمَرَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِالْإِعَادَةِ".اهـ.
وعليه؛ فإن كانتِ المسافةُ التي تقطعينها لأداء العمرة مسافةَ قَصْرٍ، فالأفضل في حقك الفِطْرُ وطاعة الوالد،، والله أعلم.