د. نصار عبدالله يكتب: ما الذى حقا يؤرقهم ؟ (2)
فى الأسبوع الماضى تكلمنا عن شخصية "هبة" التى كانت من بين شخصيات العمل الروائى البديع «تغريدة البجعة» للروائى المبدع مكاوى سعيد، وبالرغم من أنها شخصية هامشية إلا أنها تقدم دعما قويا للملامح الرئيسية التى تتسم بها الشخصيات الرئيسة فى الرواية، وفى مقدمة تلك الملامح ذلك الفصام الذى بدأ يغزو الشخصية المصرية عموما نتيجة للتحولات التى أحدثتها الهجرة إلى بعض دول النفط التى يهيمن عليها الفكر الوهابى، وهو الفكر الذى يضفى على العقيدة الدينية طابعا يتسم بالعنصرية والاستعلاء، رغم أن العقيدة الإسلامية فى جوهرها بالغة السماحة، إن هذا الفكر -كما هو معروف- يتوقف كثيرا عند بعض الرموز الشكلية الخارجية كنقاب المرأة مثلا باعتباره عنصرا من عناصر التمسك بصحيح العقيدة فى الوقت الذى يهدر فيه كيانها الإنسانى ويتعامل معها لا كغاية فى حد ذاتها ولكن كمجرد وسيلة لاستمتاع الرجل، وبذلك تختزل المرأة من كيان إنسانى شامل إلى مجرد جسد، وبذلك يسقط الفارق الجوهرى الذى يميز ما بين المرأة البغى وغير البغى ألا وهو الفارق ما بين الكيان الإنسانى الذى هو غاية فى حد ذاته وما بين الأداة التى تستخدم وتوظف من أجل إرضاء رغبات ذوات أخرى وحين بدأ هذا الفكر يتسلل إلى المجتمع المصرى فإن شر الشرور التى أنتجها هو أنه بدأ يشوه وعى كثيرات ممن يفترض فيهن أنهن ضحاياه، أعنى من ينتمين إلى جنس المرأة التى ينظر إليها نظرة دونية، وبدأت تظهر تلك الشريحة من النساء اللائى يتعاملن مع أنفسهن باعتبارهن مجرد أجساد ينبغى تغليفها شأنها فى ذلك شأن أى طعام ينتظر تقديمه لمن سيكون له الحق (الشرعى) فى التهامه، أخطر من ذلك أنهن فى اتباعهن هذا الفكر قد تقمصن نظرته المتعالية ليس إزاء الجنس الذى ينتمين إليه فحسب بل إلى سائر الشرائح الاجتماعية الأخرى فى الوطن الواحد التى لا يوجد مبرر للتميز عنها أو التعالى عليها سوى ميراث عقيدة معينة أو مذهب معين، (بل إن هذا التعالى قد يمتد فى بعض الحالات إلى الوطن ذاته)! من هنا نستطيع أن ننظر إلى هبة باعتبارها حصادا لهذا الغزو الوهابى، فهى رغم امتهانها لكيانها الإنسانى باحترافها البغاء، (الذى هو أكثر المهن إهدارا للكرامة الإنسانية)، رغم احترافها تلك المهنة التى يمكن وصفها دون تجاوز بأنها مهنة دنيئة، رغم احترافها تلك المهنة فهى لا تزال تشعر أن أهم ما فى وجودها الإنسانى وهو التدين، تشعر أنه متحقق بارتدائها النقاب!! ليس هذا فحسب ولكنها قد آلت على نفسها ألا يقربها قبطى باعتبار أن غير المسلم أدنى مرتبة من المسلم، وبهذا يتحقق لها المطلبان معا: الدين بارتدائها النقاب، والطهارة بتجنبها غير المسلم!، والواقع أن نموذج هبة هو مثال صارخ للفصام الذى أصاب الشخصية المصرية فى مجالات شتى، هذا الفصام المتمثل فى فقدان الجوهر الأخلاقى والتمسك رغم ذلك ببعض الرموز أو الطقوس الشكلية الخارجية، إنه يتحقق فى نموذج هبة كما تحقق من قبل فى رموز مؤسسى شركات التوظيف الإسلامى للأموال الذين ارتكبوا أبشع الجرائم الأخلاقية تحت مسميات شرعية لكنهم كما زعموا قد حافظوا على صحيح العقيدة بابتعادهم وإبعاد عملائهم عن أموال البنوك المحرمة! لا يختلف ما فعلته «هبة» فى جوهره عما فعله أى واحد من هؤلاء، وهو ما يجعل الإجابة عن السؤال المطروح ما الذى حقا يؤرقهم، أمرا واضحا شديد الوضوح.