د. رشا سمير تكتب: سفير جمهورية العشق
توارت الشمس وراء السحب ترسل أشعتها الحزينة على استحياء.. ولف الحُزن سكون المشاعر حول أسوار المدينة يُعانقها.. تسمرت أزهار المشمش على الأغصان تبكى..وغابت أزهار البنفسج من فوق الأغصان متشحة بالسواد.. اليوم وبعد مرور ثمانية عشر عاما على غيابه، مازال المشهد القديم محفورا بذاكرتها. ومازال الحنين لهما معا يقتلها..نزار وسوريا.. الكلمة والوطن..العاشق والحبيبة. فى عصر ذلك اليوم.. فى شُرفة بيتها المُطل على الطرف الشرقى من حى المالكى، ذلك الحى الراقى الساحر الذى تتزاحم فيه السفارات.. كانت الشمس تتسلل من نافذة مطبخها الصغير الذى يُطل على مسجد بدر، وأمامه حديقة كبيرة لُقبت بحديقة الجاحظ، فغالبا ما تُقام صلاة الجنازات المهمة بهذا المسجد، ولأن الحى يقطنه أغنياء البلد فهذا المسجد ظل مقتصرا على مناسباتهم الدينية وصلاة التراويح فى رمضان..
ترامى إلى سمعها صدى مكبرات الصوت وهى تنطلق من المسجد لتؤذن للصلاة، فكانت قد عرفت بالأمس أن جنازة نزار قبانى الذى توفى بلندن قبل أيام سوف تخرج من هذا الجامع بعد صلاة العصر.. الشاعر الذى أعاد تكوين عصور النساء.. الشاعر الذى احتل مشاعر النساء وأطلق سراحهن من سجون رجال الوطن العربى بحروف أشعاره.. نزار الذى صرخت سطور أشعاره بأنين الأوطان وبكت الكلمات تنعى الشعوب العربية وهم غافلون.. تركت مابيدها وأسرعت تجرى إلى المسجد لتُلقى نظرة وداع على شاعر دمشق الذى حررتها كلماته، ذهبت لترميه بطوق ياسمين و(هى) على يقين من أنه سيحتضنه ويبتسم.. خرجت دون أن تُخبر أحدا فى المنزل لتلحق مكانا أمام المسجد.. ففوجئت بجموع غفيرة من أهل دمشق يملأون الطرقات والساحة الأمامية.. انتهت الصلاة.. وخرج الجثمان من الجامع محمولا على الأكتاف حيث السيارة التى وقفت تنتظر والتى كان من المُفترض أن تحمل الجثمان إلى مثواه الأخير.. احتشد رجال الأمن وهم فى حالة قلق من الرجل الذى حارب الظُلم ووقف فى وجه الحُكام الطُغاة بقلم أعزل.. يا الله.. مات وما زالوا قلقين..فُنى جسده ومازال قلمه سلاحا يبث الرعب فى قلوبهم.. لمحت سيارة النعش وهى تنتظر خروجه.. ولم ينتظر الشباب فإذا بمجموعة منهم ممن كانوا يتربصون بالنعش..يخطفونه ويحملونه على الأعناق ويطيرون به بعيد عن السيارة.. انتفض رجال الأمن وحاولوا جاهدين أن يرغموا الشباب الذين حملوا جثمانه على العودة للسيارة ولكن هيهات.. فى دقائق معدودة انقلب الحال، وبدأ الشباب يتلقفون النعش بعيدا عن العربة، من يد إلى يد.. ومن شاب إلى آخر.. اصطف الناس وتراصوا خلفه وبدأت المسيرة من حول الحديقة وسط سخط الأمن وفرحة الجماهير.. فى لمح البصر وفى منظر مهيب.. تجمع عُشاق نزار قبانى فى شرفات البنايات المُحيطة بالحديقة يلقون الزهور على نعشه.. وجرت النساء إلى الداخل يحملن الأرز من مطابخهن لينثرونه على النعش من أعلى.. ازدحم البشر وتدفقت الأعداد وتحولت الجنازة إلى جنازة شعبية مهيبة.. يهدر الصوت عاليا «لا إله إلا الله».. و(هى) تهتف من ورائهم.. تقدمت الجنازة ابنته هدباء ومعها أقاربها وصديقاتها..كانت تلك المرة الأولى فى دمشق التى تخرج جنازة يصطف فيها النساء والرجال معا على حد السواء.. سارت (هى) وراء الجنازة بدافع من عشقها لهذا الشاعر الجميل الذى أبدل حياتها بكلماته وأعاد ترسيم حدود كيانها الأنثوى بأبياته.. منظر لن تنساه دمشق أبدا..الجميع سائرون يكبرون، والأرز مع الورود يغطيان النعش.. إن المسافة من مسجد بدر وحتى مقابر عائلة قبانى فى منطقة مقابر باب الصغير حوالى ساعة ونصف.. قطع الشباب والنساء تلك المسافة سيرا على الأقدام حتى أوصلوه إلى مثواه الأخير.. تذكرت و(هى) تسير خلف النعش، كم ظلمه الحُكام فى سوريا، وكم أبعدوه عن أرض الشام التى عشقها.. فجاءت جنازته عصيانا شعبيا ضد الظُلم وتأكيدا على أن الكلمة هى خير سفير لأى دولة..فالشاعر الدبلوماسى الذى عشق الوطن.. حمله أبناؤه على الأعناق رغم أنف الساسة الطُغاة.. هل تعرفون من (هى)؟ هى امرأة سورية تعلمت العشق فى أبجدياته وتذوقت الحرية من بين أطراف أصابعه وتمنت لو قابلته يوما، وكان ذلك اليوم هو لقائهما الأول!. صديقى العاشق الدمشقى..ذكراك لن تخبو أبدا فى قلوب من منحتهم الحياة بقلمك.. رحلت سيدى.. وبقيت كلماتك..وستبقى سوريا.