نصار عبدالله يكتب: ذكريات شم النسيم
أحب الأسماك العفنة المسماة بالملوحة. رغم عفونتها، ورغم إدراكى لخطورتها على كل من يتناولها (خاصة لو كان فى مثل سنى وحالتى الصحية)، فإننى على مدى عمرى كله تقريبا لم أستطع يوما مغالبة اشتهائى لكى أتناول ولو قطعة صغيرة منها فى يوم شم النسيم، أفضل دائما أن تكون القطعة التى أقتطعها مأخوذة من سمكة كبيرة لأنها أشهى! .. الملوحة كبيرة الحجم فى الصعيد تصنع من نوع خاص من الأسماك هو سمك «الرايا»، وأحيانا تصنع من نوع آخر هو «السمك الكلبى» أو «كلب السمك»، أما الملوحة صغيرة الحجم التى لا أحبها كثيرا ولا أشتهيها قط فهى تصنع من سمك «البساريا» ..أما فى وجه بحرى فهم يملحون غالبا أنواعا من الأسماك التى تعيش فى المياه المالحة لا العذبة وعلى رأسها البورى، ويطلقون عليها «الفسيخ» تمييزا لها عن «الملوحة» الصعيدية رغم أنها لاتقل عنها عفونة ولا ملوحة!.. فى السنوات الأخيرة أصبحت فى كل شم نسيم، أتوجه إلى الله بالدعاء بأن يعديها على خير ..حين يدق جرس التليفون أو الموبايل أضع يدى على قلبى .. فقد روعنى أكثر من مرة نبأ رحيل صديق عزيز من أبناء جيلى فى أعقاب تناوله كمية كبيرة من السمك العفن المسمى بالملوحة الذى ما زلت شخصيا إلى الآن مستمسكا بتناول كميات منه (أقل من أن تكون مشبعة لكنها أكثر قليلا من أن تكون رمزية)، سيناريو رحيل الأصدقاء بعد تناولهم للفسيخ أو الملوحة فى شم النسيم متشابه ومتكرر بنفس التفاصيل تقريبا ..ارتفاع فى ضغط الدم يؤدى إلى انفجارفى أحد شرايين المخ ..غيبوبة لفترة معينة يعقبها وفاة! ..المرة الوحيدة التى اختلف فيها هذا السيناريو ولم تكن الوفاة راجعة لزيادة الضغط، كانت فى عام 1991 ففى شم النسيم فى ذلك العام فقدت واحدا من أصدقائى بعد أن أصيب بالتسمم الغذائى، كانت البكتيريا التى أصابت الفسيخ والملوحة فى ذلك العام من النوع الخطير: بكتيريا البوتيولزم، ولم تكن من النوع الهين: السلمونيلا الذى لا يترتب عليه فى المعتاد إلا القىء والإسهال ..أما البوتيولزم والعياذ بالله فهو يهدم أنزيم الكولين أستيريز الذى ينظم التحكم فى العضلات وتكون النتيجة ارتخاء عضلات الحلق والقفص الصدرى فيتوقف التنفس ويتوفى المصاب، ومن الجدير بالذكر أن نشير هنا إلى أن مفعول البوتيولزم هو نفس مفعول غازات الأعصاب (الزارين والزومان والتابون والـ v.x) وهى الغازات التى تصنف بأنها من أسلحة التدمير الشامل، وهذا هو ما دعا بعض المراقبين إلى القول إن إصابة الفسيخ والملوحة بتلك البكتيريا فى عام 1991بالذات لم يكن صدفة على الإطلاق، فذلك العام هو الذى شهد حرب الخليج الأولى، ومن الوارد جدا أن هذه البكتيريا كانت معدة للاستخدام الحربى من جانب أحد الأطراف المتحاربة أو من جانب إحدى القوى التى تحاول إثارة أكبر قدر من الفزع فى المنطقة، ثم تسربت بطريقة أو بأخرى من المعامل التى تحضر فيها أو من المخازن التى تخزن بها، ثم انتقلت بطريقة مقصودة أو عفوية عبر متاع المسافرين من الخليج إلى مصر التى وجدت فيها البيئة الملائمة لنمو ذلك النوع بالذات من البكتيريا (الملوحة الفسيخ البسطرمة). يبقى فى النهاية أن أقول إننى حرصت على عدم ذكر أسماء أصدقائى الذين ذهبوا ضحايا وجبة شهية من الفسيخ أو الملوحة لأننى رأيت أن ذكر أسمائهم قد يسىء إليهم .أسأل الله أن يتغمدهم بواسع رحمته،وكل عام وأنتم بخير، متعكم الله بما تشتهى أنفسكم وأنجاكم من شرورها.