عادل حمودة يكتب: الديمقراطية لا تتسلل فى بطن حصان طروادة!
أجهزة الرقابة المالية الأمريكية تثبت فساد المنظمات غير الحكومية هنا وهناك!
فى ذلك الصباح تحمست الجدة العجوز لشراء ملابس جديدة لأحفادها الثلاثة.. وقبل أن تنزل من السيارة التى حملتها إلى السوق اخترقت رصاصة طائرة صدرها.. وعندما جاءت سيارة الإسعاف لم تحملها وحدها، وإنما حملت معها سيدة أخرى أصيبت بعيار آخر.. وقبل أن تصلا إلى المستشفى فارقتا الحياة.
حدث ذلك فى العراق يوم 18 أكتوبر عام 2007.
لم يكن من الصعب إثبات أن القاتل رجل أمن فى شركة الحراسات الأمريكية يونايتى ريسورس.. كانت تتولى حماية منظمة بحثية أمريكية غير حكومية هى «آر تى أى».. أو «ريسرش ترينجل أنيستيوت».. أو «معهد بحوث المثلث».
جاء الحادث بعد أسابيع قليلة من مذبحة «ميدان النسور» فى بغداد التى ارتكبتها شركة حراسات أخرى هى «بلاك ووتر» وراح ضحيتها 17 امرأة وانتهت محاكمتها إلى تسوية مالية حصلت عليها أسرهن.. مما أثار الغضب فى الولايات المتحدة والعراق معا.
حسب القانون الأمريكى جرت محاكمة «آر تى أى» و«يونايتى ريسورس» أمام قاض فيدرالى فى الولايات المتحدة.. ومثل المحامى بول وولف عائلة الضحيتين.. ولكن.. كان نفوذ المنظمة البحثية الأهلية أكبر من العقاب.. فقد سويت القضية بتعويضات هزيلة.
بدأت هذه المنظمة نشاطها عام 2003 بدعم من وكالة التنمية الأمريكية يصل إلى 400 مليون دولار لتعمل فى العراق.. مخترقة مؤسسات التعليم والثقافة والحكم المحلى بدعوى تطويرها.. وحصلت على معلومات دقيقة عن الطوائف والمذاهب والجماعات العرقية سهلت تقسيم العراق والإجهاز على وحدته.
ولم تكن لتثير الشك.. فقد بدت مهتمة بتعليم البنات.. واستخدام الكمبيوتر فى مدارس الصغار.. ومقاومة الأوبئة.. وصحة المرأة.. لكنها.. فى الحقيقة كانت مثل «حصان طروادة».. مهمتها الخفية التوصل إلى نقاط ضعف الدولة التى يمكن لوكالات المخابرات الأمريكية التسلل منها لتمزيق البلاد.. وهو ما حدث.
وحسب موقع «واشنطن اكسمينير» فإن المنظمة تأسست فى كارولينا الشمالية.. وحصلت على مليارات الدولارات من أموال دافعى الضرائب عن طريق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.. ورغم الانتقادات التى وجهت للمنظمة فإنها ظلت طفلاً مدللا على حجر الوكالة.. تحصل منها على منح سنوية تحسب بمئات الملايين من الدولارات.
أما السبب فهو أن المنظمة تستخدم مسئولين سابقين خدموا فى الوكالة يسهلون حصولها على عقود مالية سمينة.. ويستفيدون من رواتبها السخية.. بجانب أنها تنفق ما يقترب من 400 ألف دولار سنويا لشركة علاقات عامة هى «كونر ستون» ــ التى تخدم مايكرو سوفت وبوينج ــ لضمان استمرار موافقة الكونجرس على تلك العقود.. لكن.. الأهم دعم أجهزة المخابرات الأمريكية لها.
لم تستطع الجهات الرقابية الحكومية مواجهة فساد المنظمة رغم الانحرافات الحادة التى تضمنتها تقاريرها فدور المنظمة فى تحقيق الأهداف الخفية الأمريكية غفر لها كل خطاياها.. وتجاوزاتها المالية.
بل.. إن هيلارى كلينتون خلال توليها منصب وزير الخارجية منحت المنظمة 526 مليون دولار ــ بجانب مليار و800 مليون دولار سبق الحصول عليها ــ رغم شهرتها فى الاحتيال وإهدار المال العام ــ حسب تقرير واشنطن اكسمينير ــ بما يثير الاستغراب.
لقد أساءت المنظمة استخدام الأموال الممنوحة لها.. لم تستكمل المشروعات التى تعهدت بها فى أكثر من 24 دولة تصنف فى قائمة الأكثر فقرا.
اخترعت المنظمة مستفيدين خياليين من أنشطتها وادعت وجود عاملين وهميين فى مجال مكافحة الملاريا فى غانا.
وأرسلت أجهزة كمبيوتر إلى مدرسة فى نيكاراجوا لم تدخلها الكهرباء.
وأنفقت 23 ألف دولار على وجبة غذاء فى أحد فنادق جنوب إفريقيا تحت غطاء حملة مكافحة الإيدز.
وتصل رواتب بعض العاملين فيها ما بين 550 و605 آلاف دولار، بينما لا يتجاوز راتب الرئيس الأمريكى 400 ألف دولار.
لقد بدأت هذه المنظمة وغيرها نشاطها فى العراق بدعوى تعليمنا الديمقراطية.. لكنها.. حسب تقرير «كورب واتش» ــ أو مجموعة تقييم المنظمات الأهلية ــ فى أول يوليو 2004 تصورت أن الخطوة الأولى فى استيعاب الديمقراطية تقديم المشورة فى «جمع القمامة».. وتنظيم العلاقة الخاصة بين الرجل والمرأة.. والتمييز بين الرضاعة الطبيعية والرضاعة الصناعية.
على أنها أنفقت تسعين فى المائة من أموال الشعب الأمريكى على موظفيها.. فى حالة فاجرة من الفساد تتفجر بها تقارير أجهزة المحاسبات فى واشنطن.. لكن.. الغريب أن الحكومة هناك تتحمس لها.. وتفرضها بنفسها علينا فى مصر.. وتعتبر وجودها على أرضنا ــ هى وأخوتها ــ شرطا ضروريا لاستمرار المعونة العسكرية والاقتصادية التى تقدمها لنا.
فى عام 2015 وافق الكونجرس على منح مصر 1.45 مليار دولار.. منها 1.3 مليار دولار مساعدات عسكرية و150 مليون دولار مساعدات اقتصادية تغطى برامج للتعليم وبرامج للديمقراطية.
ويجب أن يشهد وزير الخارجية الأمريكى أن مصر تحافظ على علاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وتحافظ على التزاماتها فى اتفاقية السلام مع إسرائيل وملتزمة بسبعة شروط متعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان.. وفى حالة الالتزام بها من الممكن تقديم ما يقرب من 650 مليون دولار من المعونة.. وربما تطلق 180 مليون دولار أخرى إذا ما أكد وزير الخارجية هذا الالتزام.
لكن.. هناك استثناءات فى هذه الشروط.. تفرض على وزير الخارجية أن يشهد أمام الكونجرس بأن تقديم كل المعونة «العسكرية والاقتصادية» ضرورة من أجل الحفاظ على مصالح الأمن القومى الأمريكى.
فى هذه الحالة على وزير الخارجية أن يشرح للكونجرس لم لم تلتزم حكومته بشروط حقوق الإنسان.
وهناك استثناء آخر.. الاستثناء الأمنى.. وهو يسمح باستخدام المساعدات العسكرية فى الحرب على الإرهاب وتوفير الأمن على الحدود وبرامج منع الانتشار النووى فى مصر وأنشطة التنمية فى سيناء.
فى هذه الحالة على وزير الخارجية أن يشهد أمام الكونجرس أن تقديم المساعدات تدعم مصالح الأمن القومى.
كان هذا الاستثناء موجودا فى ميزانية 2014.. وشهد جون كيرى بأن مصر نفذت الشروط الأمنية.. فحصلت على 572 مليون دولار من المساعدات المقررة فى موازنة ذلك العام.
وتكرر الموقف نفسه فى موازنة العام التالى.. وقدمت الولايات المتحدة ما يوصف بالحد الأدنى الضرورى من المساعدات العسكرية دون الالتزم بشرط حقوق الإنسان.. ولكنها.. فى الوقت نفسه كفت عن تسليم مواد وخدمات دفاعية حتى يتحقق شرط حقوق الإنسان.
على أن هذا الشرط قفز من جديد ليسيطر على غالبية مساعدات عام 2016 وطالبت واشنطن بنشاط مضاعف للجمعيات الأهلية بما فيها «آر تى أى» التى تشكو أجهزتها الرقابية من فسادها.
ويدعم فساد الجمعيات الأهلية الممولة من الحكومة الأمريكية تقرير وزارة خارجيتها نفسها ويمكن الحصول عليه من موقعها الإلكترونى.
حسب التقرير فإن الولايات المتحدة عدلت فى عام 2005 من قانون المنح التى تقدم إلى هذه الجمعيات.. ولم تعد تشترط أن تكون خاضعة لموافقة مسبقة من الحكومة المصرية.. ويعطى ذلك التعديل وكالة المعونة الأمريكية السلطة فى تقديم تمويل الجمعيات والمنظمات غير الحكومية وشرائح أخرى من المجتمع المدنى لا تعترف بشرعيتها الحكومة المصرية.. وتسبب التعديل فى الأزمات الحادة بين الدولتين.. فقد اعتبرت مصر ذلك تدخلاً فى سيادتها.. وعبثا بأمنها.. بينما لم تجد الولايات المتحدة ما يبرر ذلك الغضب.
طالبت مصر وكالة المعونة الأمريكية بعدم تقديم التمويل للمنظمات غير المسجلة فى وزارة التضامن الاجتماعى كما ينص قانون المنظمات غير الحكومية.
وطالبت التوقف عن تمويل المنظمات الأمريكية المشابهة التى لم تتفق على نشاطها مع وزارة الخارجية المصرية واعتبرت ذلك خرقا للقانون وعملا غير شرعى يوجب العقاب.
بعد تظاهرات يناير 2011 التى انتهت بسقوط مبارك زادت واشنطن من دعمها لما تسميه برامج الديمقراطية.. وبعد نحو شهرين نفذت برنامج تمويل لدعم التحول نحو الديمقراطية والمصمم لزيادة المشاركة الشعبية فى الانتخابات وتعزيز الشفافية.
والمؤكد أن هذا البرنامج فشل فشلا ذريعا.. فقد تضاعف حجم الفساد.. وأحجم أكثر من ثلاثة أرباع المصريين عن التصويت فى الانتخابات.
كان حجم ذلك البرنامج 65 مليون دولار.. منحت واشنطن منه 45 مليون دولار إلى 16 منظمة مصرية و8 منظمات أمريكية ونقل ما تبقى من المبلغ المعتمد إلى مبادرة الشراكة الشرق أوسطية التى دعمت ــ سواء عن حسن أو سوء نية ــ التفرقة العرقية والطائفية والثقافية والمذهبية فى دول عربية مختلفة وصلت الآن إلى ما بعد التورط فى حروب أهلية انتهت إلى مبادرات تقسيم وتمزيق لا مفر من الاستجابة إليها.
وفى خريف ذلك العام وزعت واشنطن تسعة ملايين دولار إضافية إلى منظمات مصرية.. لكنها.. فى الوقت نفسه راحت تراجع حساباتها ودفاترها والأهم ما أسفرت عنه نتائجها.
كانت المراجعة تستهدف معرفة مدى التزام الوكالة المانحة للتمويل بالقانون الأمريكى.. بجانب سؤال مهم : هل حققت برامج المنح أهدافها المطلوبة بدعم التطور الديمقراطى ؟
فى مارس 2012 اكتشف مراجعو الحسابات أن 12 منظمة من أصل 24 منظمة «يصل حجم أنشطتها إلى 28.5 مليون دولار لم تكن على المسار السليم لتحقيق أهداف برنامج دعم التحول الديمقراطى فى مصر.. كما لم تحصل 11 منظمة على موافقة وزارة التضامن الاجتماعى لتلقى ما تطلب من تمويل أجنبى حسب المادة 17 من قانون الجمعيات الأهلية.
فى 29 ديسمبر 2011 داهمت الحكومة مكاتب منظمات غير حكومية «لم تكن مسجلة رسميا» وبدأت فى التحقيق معها فى قضية أفرجت فيها السلطات المصرية عن متهمين أمريكيين وسمحت بترحيلهم خارج البلاد بدعوى أنهم سيحاكمون فى بلادهم رغم معرفتها بأن القانون فى بلادهم لا يحاسب على ما فعلوا.
وتلوم وزارة الخارجية الأمريكية الوكالة الدولية للتنمية «الوكالة المانحة للتمويل» لأنها تحدت الحكومة المصرية ومولت منظمات غير قانونية ولم تتخذ القرارات الصائبة فى الوقت المناسب بتعديل اتفاقيات المنح حسب التشريعات المحلية.
ووجد فريق مراجعة الحسابات أن الوكالة لم توفر المراقبة اللازمة على أداء الجهات الممنوحة فى مصر.. منها منظمة لم تذكر اسمها حصلت على أكثر من 721 ألف دولار ولكنها لم تقدم وثائق إثبات نفقاتها.
وكأن فساد بعض هذه المنظمات يمتد من الولايات المتحدة إلى مصر مرورا بدول كثيرة فى العالم، مما أدى إلى أن المليارات التى انفقت على أكثر من 450 منظمة غير حكومية لم تحقق ما مولت من أجله.. وإن نقلت المسئولين عنها إلى مستوى مادى أفضل.
لقد فتحت من جديد قضية هذه المنظمات فى مصر.. وجددت المتاعب بينها وبين السلطة القائمة التى لم تكن موجودة فى الحكم يوم بدأت.. وربما يبرر ذلك التسوية الودية وفتح صفحة جديدة قى وقت نسعى فيه إلى لم الشمل الوطنى من جديد.. على أن تسوى هذه المنظمات أوضاعها طبقا للقانون.. وتفتح صفحة جديدة.. ما أحوجنا الآن إلى فتح صفحات جديدة.