د. رشا سمير تكتب: صناعة الزيف
من بين كل الأحجار.. ومن وسط كل المعادن.. ومن بين كل المعانى.. يبقى النفيس صفة والخسيس معنى.. يظل النجاح اختيار المجتهدين والفشل قدر العاجزين.. ويبقى التحدى الأكبر للجميع هو البقاء على القمة والهروب من القاع..
يذهب عام وتأتى أعوام.. وتظل الذكرى هى الحُلم والأمل والألم معا.. تظل الذكرى هى حروف تكتب الغد وحروف تحكى عن الأمس.. اليوم ونحن ندفع آخر لحظات عام 2015 لترحل..حيث عام أرهقتنا أحداثه وأحتلتنا هزائمه وحلُمنا بنجاحاته.. اليوم توقعت أن يكتب الجميع مودعين.. أو يكتب الجميع مهنئين.. ولذا قررت أن أكتب أنا لأودع العام بطريقتى الخاصة.. قررت أن أكتب عن أمنية واحدة أتمنى لو تحققت فى عام جديد يحمل الأمل بين طياته.. قررت أن أكتب عن صفة طغت على مجتمعنا المصرى لأعوام فذبحته، صناعة من أكبر الصناعات الخفيفة والثقيلة التى نجحت فى مصر وعن جدارة والتى أتمنى أن تختفى فى العام القادم.. وهى صناعة الزيف!. الزيف من الصفات التى تبناها المجتمع واحتضنها تجار المبادئ فنخرت فينا حتى صنعت حالة مُهترئة من التردى المجتمعى..
كانت مصر عامرة دوما بنجومها فى الفن والأدب والإعلام والصحافة والرياضة والسياسة.. هؤلاء فقط ممن يمتلكون الموهبة الحقيقية..الموهبة التى كانت الأساس الوحيد للنجاح والضمان الأعظم لاستمراره.. واليوم ماتت المواهب الحقيقية تحت أرجل صُناع الزيف.. فالنجاح تحول من فطرة إلى صناعة..من هدف إلى ميراث.. من حالة تضع صاحبها على القمة إلى فخ أخذ المجتمع بأسره إلى القاع.. لقد سيطرت العلاقات على كل الأوساط وأحكم المال قبضته على كل الصفقات الإنسانية التى لم تكن تخضع يوما لسطوة المادة..
الحدوتة تبدأ بشخص يتم الدفع به لدخول الوسط الأدبي أو الغنائى أو الفنى أو الإعلامى.. فيثبت فشله.. لأنه ببساطة لا يمتلك الموهبة.. وتوضع الخطة البديلة.. التهليل الإعلامى والتزييف عبر مواقع التواصل الاجتماعى وشراء النقد بالمال واستغلال العلاقات المشبوهة للحصول على الجوائز «يعنى من الآخر برنامجين وإعلانين وتصريحين على الجوجل وتربيط على جائزتين وهوبا ينبدل الحال»!
تنقلب جميع الموازين وتتبدل المفاهيم فينجح الفاشل وينزوى الناجح.. يظهر الرخيص ويختفى النفيس.. فيصاب كل أصحاب المبادئ والمواهب الحقيقية بحالة اكتئاب شديدة.. ويُصاب أصحاب العاهات بحالة نرجسية مُزيفة.. هكذا كان عام 2015، عام يعُج بالفاشلين والخاسرين وأصحاب الأصوات العالية..وهكذا جاءت نتائج الاستفتاءات التى تُجرى فى نهاية العام عاكسة لهذا الواقع المخيف.. من أحسن ممثل وإعلامى وكاتب وسياسى وشخصية عامة إلى أحسن عمل درامى وأغنية ورواية.. نتائج عبرت عن هرم مقلوب سقطت عمالقته وصعدت أقزامه.. عام غابت فيه فاتن حمامة وعمر الشريف وجمال الغيطانى وعبد الرحمن الأبنودى..وحصلت أغنية «سيب إيدى» على أعلى نسبة مشاهدة على اليوتيوب!.. عام ظهرت فيه داعش وسيطرت على عقول مُريديها بالزيف والمال وتحريف الدين.
إن عملية التلميع الإعلامى التى تتم تحت سطوة المال والمصالح، هزمت المجتمع وأبدلت موازينه وأفقدت المحترمين اتزانهم..
فمن برامج سلوى حجازى وأبلة فضيلة وصل بنا الحال إلى متابعة أبلة فاهيتا والسماح لأبنائنا بترديد إفيهاتها، والاستمتاع بلا خجل لحلقات فحواها الابتذال والتدنى بالذوق العام.. ومن باشوات وزعماء تحت قبة البرلمان، وصل بنا الحال إلى صعود بلطجية ومطبلاتية ودجالين وأفاقين إلى الوجود تحت نفس ذات القبة.. مجرد أنهم مفلسون صنعهم الزيف.. لم يعد الفعل الفاضح قاسرا على الطريق العام بل وصل إلى الشاشات وخلف الميكروفونات وبين صفحات الروايات وفى كل المحافل الاجتماعية!..
صناعة الزيف سلاح حمله كل من تولوا هدم المجتمع بدعوى المدنية والتحضر والحريات..
لا أتمنى أن تحمل كلماتى أى صبغة تشاؤم لأننى مازلت أؤمن بزمان سوف يأتى ليعود فيه المحترمون إلى القمة ويسقط الزائفون إلى القاع..
ساعات ويرحل 2015 ونستقبل 2016 بآمال جديدة وتطلعات جديدة وقلوب تتمنى أن يأتى الغد بما ضن علينا به الأمس..فكل عام وأنتم بخير ومصر دائما وأبدا بكل خير.