د.رشا سمير تكتب: إنهم يمحون حضارة الشرق
فى إستراتيجيات غزو الدول..تُرى كيف يُفكر العدو؟
هل يبدأ بالتسلل الثقافى إلى البشر؟ أم يبدأ بإسقاط الحُكام؟ أم هو القضاء على النُخبة؟ أم يدمج ثقافته وعاداته بهدوء فى المجتمع الذى يطأ أراضيه؟ لأن الإستيلاء على الأرض أسهل بكثير من الإستيلاء على الفكر وتطويع العقيدة..
هل يستخدم العدو القوة أم الحنكة للفوز بالمعارك؟..
ويبقى السؤال الأكثر تعقيدا: هل تأتى القوة بالشرعية أم تأتى الشرعية بالقوة؟.
واليوم يجب أن نتسائل..من عدونا؟ هل هى داعش أم إسرائيل أم نحن المسلمون؟
فى الأسبوع الماضى قام تنظيم داعش بإعدام 3 أشخاص في المدينة الأثرية بتدمر في وسط سوريا عبر تقييدهم بـثلاث أعمدة أثرية وتفجيرها..
الحقيقة أن هذا الخبر الصغير الذى كان يتوارى فى جانب من الصحيفة كان خبرا بحق يستحق الإهتمام والتحليل..هل يقتلون البشر أم يغتالون التاريخ؟!.
وفى نفس السياق وبنفس الأسلوب يأتى فى الأشهر الماضية تدمير قلعة تل عفر التاريخية عبر تفخيخها ونسف معظم أبراجها وأسوارها القديمة..وتدمير عدد كبير من التماثيل الآشورية التي تعد من أولى الحضارات البشرية بما فيها تمثال الثور المجنح العائد فى متحف الموصل..وتدمير مدينة نمرود التاريخية بالجرافات وتحطيم معالمها بالكامل..وحرق الآلاف من الكتب والمخطوطات النادرة فى مكتبة الموصل..
فلماذا الشرق؟ طبعا، لأن الشرق هو مهد الحضارات القديمة..
فمصر هي أقدم حضارة في الشمال الشرقي لقارة أفريقيا..وتاريخ اليمن القديم هو التاريخ الذي يتناول الحضارات الصيهدية من الألفية الثانية قبل الميلاد حتى وصول الإسلام في القرن السابع..
وتبقى العراق بتاريخها المعروف في العصور الكلاسيكية القديمة ببلاد ما بين النهرين، موطن لأقدم الحضارات في العالم, ولذلك يمثل السومريون أقدم أمة سكنت ما بين النهرين..واستمدت منها أوروبا وأمريكا ثقافتهما على مدى القرون..
كما يروي المؤرخون أيضا أن الحضارة الإيرانية القديمة لها الدور في تمدين الجنس البشري، حيث استطاعت الحفريات القديمة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين أن تؤيده بينما اتجهت أنظار المستشرقين إلى البحث في تراث الشرق، وتوالت بعثاتهم الأثرية في حل رموز الكتابة المسمارية الفارسية.
هذا هو تاريخ الشرق وحضارته التي قررت دولة صهيون أن تمحوه بذكاء شديد، ففى الوقت الذى كان فيه الشرق الأوسط يكتب تاريخ العالم، لم تكن أى من دول العالم الجديد لها وجود أو أى أثر تاريخى..فالتاريخ إذن هو الفرق.
هكذا فكرت الدول العظمى حين قررت غزو الشرق الأوسط فى طريقة لفناء حضارته..ولأن تقبل الأديان الأخرى كان دائما وعلى مر العصور أسهل بكثير من تقبل العديدة داخل الديانة الواحدة..كما حدث فى الثلث الأخير من القرن السادس عشر حين بدأت في أوروبا حرب الكاثوليك والبروتستانت والتى استمرت لأكثر من مائة عام، ومن نفس المُنطلق دعمت تلك الدول المُغيرة فكرة الخلاف بين السنة والشيعة..
ومع ظهور الإسلام المتطرف وإنتشار عدد الشيعة ومحاولات السُنة للتمسك بوحدتهم..تأججت النيران واضطرمت..
النيران التى لم تكف إسرائيل يوما عن تغذيتها بهدوء شديد حتى لا تخمد.
وهنا صدرت لنا تلك الدور وببراعة فائقة فكرة (صناعة الكراهية)..فالشيعة يجب أن يكرهوا السُنة، والإخوان يجب أن يكرهوا السلفيين، والمسلمين المعتدلين يجب أن يبغضوا فكرة الإسلام المتطرف، وحزب الله يجب أن يقف فى وجه حماس..
وإكتفت إسرائيل بالمشاهدة من بعيد، فقط لو خفت صوت المعركة فلا مانع من إلقاء المزيد من الوقود حتى تبقى النيران مشتعلة..
هكذا تحولت الحرب من دول تتصارع إلى فئات تقتتل..والنتيجة واحدة..سقوط الدول..
إن صناعة الكراهية كارثة حقيقية تُعانى منها اليوم دول الشرق الأوسط..وللأسف فبأيدينا سقطت دولنا..وبأسلحتنا قتل المسلمون بعضهم البعض..
إنهم اليوم يبعثون بجيوش الإحتلال من نوع آخر..إنهم يحتلون العقول ويمحون التاريخ ويصنعون من الكراهية أصفادا نرتديها بإرادتنا..
نعم سيسقط الشرق..لو لم نُدرك أن حضارتنا هى رداء قوتنا.