د. نصار عبدالله يكتب : من أجل (2) يورو!
البيروقراطية هى البيروقراطية!، والتنفيذ الحرفى الصارم للتعليمات هو التنفيذ الحرفى الصارم للتعليمات!، حتى فى القطاع المصرفى الذى يفترض فيه إلى جانب الدقة أنه يتسم أو بالأحرى ينبغى أن يتسم أيضا بهامش من المرونة لكى ييسر معاملات المواطنين ويوفر وقتهم وجهدهم دون إخلال بروح التعليمات ومقاصدها، وحتى لا يكون كلامى كلاما فى العموميات دون أمثلة محددة فإننى أستأذن القارئ العزيز فى أن أروى له ما حدث معى فى البنك الوطنى (حاليا أبوظبى) فرع ناصر بسوهاج يوم الخميس الماضى 19/2 حينما أضعت يوما كاملا تقريبا من أجل 2يورو.. أجل يوروهان.. (مثنّى يورو)..الحكاية وما فيها أننى كان لى حساب باليورو يشتمل على رصيد ضئيل، وقد قررت سحب الرصيد بالكامل وقفل الحساب تخلصا من المصاريف التى يتقاضاها البنك بشكل دورى طالما أن الحساب قائم!.. (وهو ما يعنى أنه سوف يجىء يوم من الأيام يتبدد فيه الرصيد تماما طالما أن عوائده لا تغطى مصروفاته!).. فى غابر الأيام كنت أحظى بمعاملة خاصة من سائر البنوك المصرية باعتبار أننى كنت موظفا بالبنك المركزى المصرى أمضيت فى خدمته أكثر من عشرسنوات وهو ما كان يستوجب طبقا للأعراف المصرفية إعفائى من أى مصاريف أوعمولات مثل تلك التى تتقاضاها البنوك عادة من تعاملاتها مع عملائها ، لكننى تبين لى مؤخرا أن هذه الميزة لم تعد قائمة وأن مصاريف جميع (حساباتى) ظلت تخصم من (أرصدتى)على مدى سنين طويلة دون أن أنتبه إلى ذلك!!. المهم أن رصيد اليورو كان فى بادئ الأمر رقما صحيحا لكنه أصبح بعد خصم المصاريف 652يورو ، قررت أن أسحبها.. وهنا كانت المفاجأة فالبنك ليست لديه فكة..وأقل عملة متوفرة لديه هى (5) يورو.. قلت للموظف المختص إننى متنازل عن الـ 2يورو وتكفينى الـ650المتبقية مع استعدادى للتوقيع على ما يفيد التنازل! فهز رأسه أسفا وهو يعتذرعن عدم إمكان تحقيق ذلك..(أتفهم موقفه لأنه لا يملك صلاحية قبول التنازل عن أى مبلغ مهما كان ضئيلا)..قلت له: يمكنك أن تصرف لى ما يعادل الـ 2يورو بالجنيه المصرى، فهز رأسه أسفا مرة أخرى!، وتوجه إلى رئيسه الذى اعتذر لى بأدب شديد، إذ إن هذا القرار ليس من صلاحياته أيضا!، وأنه يتعين إرسال طلب إلى الإدارة المركزية بالقاهرة للموافقة على تحويل مبلغ معين مودع بعملة معينة (يقصد بالمبلغ.. الـ 2يورو!) إلى عملة أخرى تنفيذا لتعليمات البنك المركزى!!.. وقد كان!.. أرسل الموظف المختص طلبا عن طريق الإيميل إلى القاهرة.. وللأمانة فقد كان إلى جانب اتسامه بالدماثة والتهذب والدقة..كان ايضا يتسم بقدر واضح من اللماحية والذكاء إذ لم يفت عليه أن يوضح فى الطلب أن السبب فى هذا الطلب هو أن يتمكن الفرع من إقفال الحساب، ولولا هذا التنويه فقد كان من الوارد أن ترد الإدارة باستيضاح السبب فى مثل هذا الطلب لتحويل مبلغ ضئيل...المهم أننى انتظرت طويلا إلى أن جاء الرد بالموافقة وهكذا أضعت يوما كاملا من أجل (2) يورو، لكنى على أية حال حمدت الله على أن البنوك قد أصبحت تستخدم البريد الإلكترونى فى المراسلات، صحيح أن الرد قد يتأخر أحيانا لبضع ساعات، لكنها لو أنها كانت تستخدم البريد العادى كما كان يحدث فى زماننا لكنت بغير شك قد أضعت أياما وربما أسابيع من أجل (2) يورو، بل ربما من أجل سنت واحد، ذلك أن السنت فى المنطق البيروقراطى لا يختلف عن المليون من حيث قدرته على تعطيل إتمام أية معاملة ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.