د. أحمد يونس يكتب : الإخوان جعلونا نترحم على أيام الهكسوس
ظهر أمس، قـابلتها بالصدفة على سلالم نقابة الصحفيين، ولا فـكرة لدى عن الحكمة من ذهابها إلى هناك. ملابسها توحى بأنها فقيرة بقدر ما هى متعلمة، فضلاً عن هذه النحافة الشــديدة التى نادراً ما تقع عليها العين فى العالم العربى. حصلت على ليسانس الأدب الفرنسى من جامعة القاهرة. إلا أنها التحقت بوظيفة سكــرتيرة بإحدى شــركات القطــاع العــام التى لا أدرى كيف نجت حتى الآن من الخصخصة.
سـيدة هى فى الأربعــينات من عــمرها ترتدى السواد. أو ربما أصغر بكثير. لكن الشقاء هو الذى خط على ملامحها تلك الهالات الداكنة، خاصة تحت العينين، كما لو أنها إنـذار بالشيخوخة المبكرة. ملابس الحداد ترتديها على ابن أختها الذى استشهد فى اليوم الرابع من ثورة 25 يناير، وعلى خالها الشاب الذى أصيب بثلاث رصــاصات استقرت فى الصــدر على يد ميليشيات الإخوان أيام مرسى، ولا تعلم على مـن سترتديها فى المستقبل. شاركت فى ثورة 30 يونيو بحثاً عن الموت. لكنها لسوء الحظ كانت سلمية. الخريف يأتى مرة أخرى فى غــير موعــده. وقد علمتنى الدنيا، فيما علمتنى، أن الخريف ليس واحداً من فصول السنة الأربعة. يأتى ثم يذهب. إنما هو إحسـاس يولد فــى القلب، وأنه حين يأتى أبداً لا يذهب.
الشعور المـشترك بالأسى جعلنا نصبح صديقين فى دقائق، كما لو أن بيننا معرفة قديمة. صديقان يلتقيان فى محطة ما من الطريق، ليتقاسما الهم الثقيل، ولا يلبث كل منهما أن يذهب إلى حال سبيله. لكن كلاً منهما قد يتذكر الآخر فى لحظــات الشــجـن. ومـن يدري؟ لعلنا نلتقى مرة أخرى على سلالم النقابة أيضاً ذات يوم. ملحوظة: عندما سـألت السيدة الحزينة عن اسمها، لم تجب، ولا أزال أبحث عن الاسم الذى تستحقه.
الوضع فى مـــصـر الآن لا يسمح بالكثير من البهجة. لا مانع من بعض الحزن النبيل. أكرر: النبيل. لا الذى يظهر على وجوه قيادات الجماعة الإرهابية، كلما تذكروا الطريقة المذلة التى لفظهم بها المصريون. الضباع أيضاً تحزن حين تتمكن الفريسة من الإفلات. سيكولوجية الإرهابى لا تعرف إلا هذا النوع الحقير من الأحزان.
الكابوس فى أبشــع صــوره كان سيبدو لنا محتملاً، لو تصورنا بقاء الإخوان يوماً واحداً بعد 30 يونيو. مجرد التفكير فيما كان سيلحق بمستقبل مــصر، لو استمرت هذه العصابة المشوهة تماماً من الداخل على قمة السلطة. دولة المرشد التى عاشت عـاماً بالقهر، تفضحها مراجعة دقيقة لمخـتلف الكتب التى تحدثت عن مؤشرات الفساد أو القمع أو التخلف فــى مــصر، سياسياً كان أو اجتماعياً أو مالياً أو إدارياً أو على أى صعيد آخر، خلال العهود الماضية، تكفى لندرك أن مجموع تلك الوقائع ليس أكثر من دعابات طفولية بريئة، إذا ما تذكرنا ما جرى على مدى 365 يوماً أسود من قرن الخروب. ربما استطاع الإخوان فى ظرف عامين لا أكثر أن يجعلونا نترحم على أيام الهكسوس.
أى نعم، نحن فى مــصر نحزن كثيراً. لكن بلا عمق. وسرعان ما ننسى. مظاهر الحزن باتت فى حياتنا ـ كالتنفس أو الهضم من الوظائف الطبيعية التى نؤديها لاإرادياً. غـير أننا ـ كما يحدث أيضاً مع الهضم أو التنفس لا نضيفها إلى مخزون العقل الواعى على مستوى الفرد أو الجماعة. الظاهر أن الدموع فى هذه البلاد أصبحت ـ كالعرق ـ مجـرد إفرازات. الحزن الذى أعنيه ليس ندباً أو لطماً على الخدود. ما أقصده هو الحزن الذى يشكل مع الأيام بركاناً قـادراً على تغيير الواقع بالفعل. الحزن النبيل الذى اعتادوا دائماً أن يذبحوه فى المهد، كلما ارتدى الوطن الحداد على نفسه.